من الإشعاعات النووية والغازات الكيميائية، إلى اليورانيوم المستنفد الذي استخدمته قوات الاحتلال الإسرائيلية في قذائفها على الفلسطينيين، إلى تفتيش أجساد المسافرين الفلسطينيين بواسطة أشعة إكس، إلى تشعيع خيم المعتقلين الفلسطينيين كي لا يتمكنوا من الاتصال بذويهم بواسطة أجهزة الهاتف المحمولة التي استطاعوا تهريبها، إلى ما تناقلته وسائل الإعلام من اجتهادات تفسر موت الرئيس ياسر عرفات بواسطة إشعاعات كما حدث مع خالد مشعل...
مراسلو ''البيئة والتنمية'' تقصوا في هذا التحقيق من فلسطين أخطاراً رهيبة تهدد الإنسان وبيئته.
بدأ تناول الفلسطينيين لمشكلة التلوث الاشعاعي حين لاحظ الأطباء شيوع اصابات السرطان وحالات مرضية غريبة وأمراض أخرى لم تكن معروفة في المجتمع الفلسطيني، خصوصاً جنوب الخليل. وهم يعزونها الى التسريبات الناجمة عن المفاعل النووي الإسرائيلي في صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة، وأيضاً الى إقدام دولة الاحتلال على دفن نفاياتها النووية في الأراضي الفلسطينية.
الدكتور محمود سعادة صاحب عيادة في بلدة الظاهرية على تماسّ مباشر بمرضى السرطان وطبيعة إصاباتهم. قال لـ ''البيئة والتنمية'': يبدو أن الحرب المقبلة هي حرب الرحم الفلسطيني، فقد ثبت علمياً أن الإناث عرضة للإصابة بالسرطان أكثر من الذكور''. وتحدّث عن عشر نساء أجهضت الواحدة منهن أكثر من خمس مرات. ووصلت تحاليل قوة الدم إلى درجة خطيرة من التدني، وازدادت حالات تساقط الشعر وجرثومة المعدة. وبلغ عدد المعاقين في بعض العائلات أكثر من خمسة أشخاص، بالإضافة الى عدم الإنجاب، والتخلف العقلي، والإعاقات الجسدية، وعدم النمو الطبيعي، ومشاكل أخرى. وتعالج عشرات الحالات من بلدة الظاهرية حالياً في مستشفى بيت جالا.
ذكّر سعادة بأن الصحافة الإسرائيلية أفادت أن مكب النفايات السامة في منطقة ديمونا يسبب زيادة في نسبة الوفيات واصابات السرطان، الأمر الذي يعني وجود صلة بين الملوثات الناجمة عن النفايات السامة في مكب ''رمات حوفاف'' في النقب والنسبة المرتفعة للوفيات والإصابة بالأمراض وكثرة العيوب الخلقية بين السكان البدو، والإصابة بالسرطان لدى النساء اليهوديات في منطقة رمات حوفاف القريبة من المفاعل النووي الإسرائيلي. ورأى أن كل شيء يشير إلى أن الجو في جنوب الخليل ملوث بالإشعاعات النووية: ''لقد ولد في الآونة الأخيرة طفل نصف وجهه أحمر، وتم اكتشاف سرطان الثدي لدى عجوز، وهناك أطفال يولدون من دون يدين، ومنهم من يولد بتشوه في وجهه أو جسمه، وقد ولد طفل بانحراف كامل في الوجه إلى جهة اليسار''. ولفت الى حالة نمو غير طبيعي للأمعاء عند أحد الأشخاص، حيث أصبح شكلها مثل ثمرة القرع في تشوّه غريب من نوعه.
يبدو الأمر في غاية السوء في ظل وجود مكبات نووية لم تستطع سلطة البيئة الفلسطينية تحديد اماكنها بدقة، بسبب التكتم الاسرائيلي وسيطرة الجيش على هذه المناطق مما يحول دون الكشف الميداني على المكبات. إلا أن بعض السكان من مناطق مختلفة كانوا يبلغون عن قيام الجيش بتطويق منطقة معينة، فتأتي سيارات خاصة تنقل النفايات، ويتم إخفاء المواد بمواد اسمنتية شبيهة بالصخور حتى يصعب التعرف عليها.
ويقوم مفاعل ''ناحال سوريك'' بدفن نفاياته النووية بالقرب من قرية صوريف غرب مدينة الخليل، الأمر الذي أدى الى تلويث المياه الجوفية في المنطقة. الدكتور خليل الذباينة من جامعة الخليل، الحاصل على دكتوراه في الفيزياء النووية، ذكر لـ''البيئة والتنمية'' وجود ارتفاع في اصابات السرطان الى حد لا يمكن السكوت عليه في قرى وبلدات جنوب الخليل. وقد دفعت تلك المعلومات أهالي بلدة يطا الى نشر مناشدة مفتوحة في جريدة ''الحياة الجديدة'' لانقاذهم من هذا الغول الذي يتهدّدهم.
الصحة: انتشار مرض السرطان أقل من المعدل الطبيعي!
من وجهة النظر الرسمية، اعترض الدكتور نبيل السيد مدير صحة الخليل على البيانات والأرقام التي ذكرت حول ارتفاع نسبة مرض السرطان في المحافظة. وقال ان عدد الحالات في مدينة الخليل أقل من المعدل الطبيعي، وان نسبة الاصابة في المحافظة 62 اصابة لكل مئة ألف مواطن بحسب إحصائيات وزارة الصحة. واعتبر ان المبالغة في الأرقام تؤدي الى ترويع المواطنين.
رئيس بلدية يطا المهندس سامي شنيور نفى بدوره أحاديث أشارت الى أن نسبة العقم بلغت نحو 60 في المئة واعتبر أنها ليست مبنية على أسس علمية، مؤكداً تصريحات السيد ودراسات وزارة الصحة التي تؤكد أن هناك تضخيماً في النسب والأعداد. وقال: "هذا الأمر حسّاس جداً، وقد أدى في بعض الأحيان إلى إثارة البلبلة والحرج والمشاكل بين العائلات".
وفي رد على ما طرحه مدير صحة الخليل، نبه الدكتور خليل الذباينة الى وجود تناقض سببه ان الجهاز المستخدم في القياسات التي حصلت عليها الجهات الرسمية يعود الى العام 1960، في حين تتوافر حالياً أجهزة حديثة تظهر أدق القياسات.
في الجانب الآخر... الاسرائيلي
كانت صحيفة ''القدس'' نقلت عن الصحف العبرية في 26/4/2005 أن الطبيب الاسرائيلي ميخائيل شابيرا، من مستشفى هداسا، أكد صحة المعلومات الواردة عن انتشار مرض سرطان الدم على نحو غير طبيعي في منطقة جبل الخليل، وبلدة يطا تحديداً. ولم يستبعد شابيرا أن يكون لذلك علاقة بمخلفات نووية وكيميائية خطيرة يتم دفنها من دون رقابة في مناطق تتاخم تلك البلدة، موضحاً أن انتشار سرطان الدم لدى عشرات المواطنين يعني وجود تلوث خطير في مصادر المياه. لكن مستشفى هداسا الاسرائيلي الشهير نفى ذلك، واعتبر أن شابيرا لا يمثل وجهة نظر المستشفى.
السلطات الاسرائيلية تفرض تكتماً على الموضوع، وتتعرض لكل من يحاول إبراز هذه المشكلة. إلا أن ذلك لم يمنع مسؤولاً في وزارة البيئة الاسرائيلية من القول بأن الأمر بالغ الخطورة على البيئة والانسان، في المناطق الأكثر تعرضاً لانبعاث الاشعاعات من مكبات النفايات النووية وتلك القريبة من المفاعل. والتهديد الخطير الذي يشكله مفاعل ديمونا اضطر حكومة اسرائيل لاحقاً الى اتخاذ قرار بتوزيع حبوب مضادة للمواد المشعة، وهي حبوب اليود ''الوجول''، على سكان البلدات الاسرائيلية المجاورة.
يورانيوم مستنفد
لا ننسَ ان سلطات الاحتلال استخدمت ذخائر وقذائف اليورانيوم في قمع المتظاهرين في الانتفاضة الثانية. وهذا اليورانيوم، حتى لو كان مستنفداً، يظل حسب الخبراء والأطباء يشكل خطراً على الصحة العامة. فهو يمتاز بدرجة عالية من السمية والاشعاع.
والغازات ليست أقل خطراً من الاشعاعات. يقول الخبير الفلسطيني في قضايا البيئة جورج كرزم: "لقد استخدمت قوات الاحتلال غازات كيميائية معروفة ومجهولة، ومنها المحرمة دولياً، ضد التظاهرات الفلسطينية. ولئن تكن لبعض الغازات المستخدمة تأثيرات بسيطة، إلا أن تراكماتها الزمنية قد تسبب أمراضاً خطيرة. فقد أشارت نتائج الاستبيان الذي وزعته على المستشفيات وزارتا الصحة والبيئة الفلسطينيتان في الأشهر الأولى للانتفاضة، الى ارتفاع معدلات الاجهاض بالدرجة الأولى ومشاكل التنفس والاخلالات في الجهاز العصبي، ولا سيما لدى الأطفال. كما قصفت اسرائيل مصانع فلسطينية تسبب انفجارها في حدوث تسمم غازي أو هوائي، مثلما حدث لدى قصف مصنع الاسفنج في غزة ومعامل الحجارة في جنين وبيت لحم".
تشعيع العابرين والمعتقلين
استخدمت سلطات الاحتلال آلة كشف عسكرية حديثة ''تعرّي'' النساء والرجال الفلسطينيين، منتهكة خصوصيتهم ومعرضة صحتهم للخطر. وقد استعملت هذه الآلة، مثلاً، في معبر رفح كبديل للتفتيش الجسماني. ويتخوف الفلسطينيون أن تتسبب في مرض السرطان وتضر بخصوبة الرجال.
وفي ظل تهريب أجهزة الهاتف المحمول الى داخل المعتقلات الاسرائيلية، عمدت سلطات السجون والمعتقلات الى تركيب نوع من الأجهزة التي توجه الى خيم المعتقلين، وتبطل أشعتها عمل أجهزة الهاتف المحمول. معتقلون مفرج عنهم أخبروا ''البيئة والتنمية'' أنهم بسبب توجه تلك الأجهزة الى خيمهم كانوا يصابون بصداع شديد.
وتلجأ السجون الى هذا النوع من الأشعة من أجل السيطرة على الاتصالات بين المعتقلين وذويهم. فما نوع هذه الأشعة؟ وما خطرها على صحة المعتقلين؟ وما قدرة الانسان على تحملها ولأي فترة زمنية؟ هذا ما لا يمكن أن توضحه سلطات السجون والمعتقلات في إسرائيل.
والرئيس عرفات؟
عشية الرحيل المفاجئ للرئيس ياسر عرفات، لميستبعد الفلسطينيون وغيرهم ان يكون قد تسمم أو تعرض لاشعاعات. ولم يفصح مستشفى بيرسي الفرنسي عن السبب الحقيقي للوفاة، فلم ينفِ أو يؤكد أن السبب كان التسمم أو الاشعاع.
المقدم منير الزعبي، أحد المسؤولين في حراسة الرئيس الراحل، ذكر في برنامج ''العين الثالثة'' لفضائية ''العربية'' ان هناك إمكانية أن يكون السبب التسمم أو التعرض لأشعة الليزر القادرة على تحديد الشخص المقصود. قال: ''أنا كنت في باريس حين نقل الرئيس الى المستشفى. طبيب فرنسي شرح لنا أمراً رسخ في فكري: "إذا كان أبو عمار قتل بتسمم، فثمة احتمال أن يكون تسمم بفعل إصابته بأشعة الليزر، عن طريق كاميرا صحافية أو تلفزيونية أو جهاز يبث أشعة ليزر، خلال أحد لقاءاته الصحافية. فاللقاء قد يستمر ساعة أو أكثر، تكون خلاله الكاميرات مسلطة عليه".
ردود الفعل الفلسطينية
من التحذير، الى الادانة، الى الاتصال بالمؤسسات الدولية، الى توعية الجمهور، تلك هي ردود فعل السلطة الفلسطينية. في هذا السياق حذر رئيس سلطة جودة البيئة يوسف أبو صفية من الآثار البيئية والصحية القاتلة نتيجة استمرار اسرائيل في تشغيل مفاعل ديمونا النووي ومواصلة دفن مخلفاته على الحدود الشرقية من القطاع.
واتصلت سلطة جودة البيئة بالمنظمات الدولية المعنية، ومنها منظمة الصحة العالمية والوكالة الدولية للطاقة الذرية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، لإزالة جهاز التفتيش الاشعاعي. وكان المجلس التشريعي شكَّل لجنة خاصة مهمتها البحث في تفاصيل المخاطر التي تسببها الاشعاعات التي تطلقها أجهزة التفتيش الاسرائيلية. وقد أخبرنا النائب معاوية المصري أنه تعرض هو شخصياً للتفتيش بواسطة جهاز الأشعة عند الحاجز.
هكذا، يدخل الفلسطينيون حرباً غير متكافئة لا يملكون شيئاً من تقنيتها ولا من وسائل الوقاية والحماية منها. وبذلك تكون اسرائيل استبدلت القذائف والصواريخ بالنفايات والمجاري والاشعاعات الخطرة، لقتل الانسان الفلسطيني ببطء وصمت عبر تدمير صحته وبيئته التي يعيش فيها ومصادره الطبيعية التي يعتمد عليها.