الحقول الخضراء والغابات تغطي الطمي والأحافير التي خلفها بحر داخلي منذ ملايين السنين، والصخور والحصويات المتبقية من نهر جليدي كان بسماكة ثلاثة كيلومترات وذاب قبل آلاف السنين، والتربة المستنزفة إثر عقود من الزراعة غير المستدامة في بدايات القرن العشرين. وسط هذه الحقول والغابات تقبع "القرية البيئية" (EcoVillage) في ايثاكا بولاية نيويورك، حيث يتقاسم جيران محبون للبيئة المكان ووجبات الطعام والأعمال الروتينية ويهتمون بعضهم ببعض.
قبل شراء تلك الأرض لانشاء القرية عام 1992، كانت الحقول تزرع بحشائش العلف والذرة والفصة. وفي الماضي الأبعد، كانت فئران المسك تصاد بواسطة الأشراك وتباع للاستفادة من جلودها. حدث الكثير لهذه الأرض في السنوات الاخيرة. ففي العام 1991 اختمرت فكرة بناء قرية بيئية في رأس جوان بوكر أثناء مشاركتها في "المسيرة العالمية من أجل عالم صالح للعيش"، وهي مسيرة بيئية عبر الولايات المتحدة. فنظمت في ايثاكا "خلوة رؤيوية" لمدة أسبوع، كانت الحافز لتأسيس منظمة "القرية البيئية". وبعد جمع مبلغ 400 ألف دولار لشراء الأرض، معظمها قروض، تم تكليف صفوف الهندسة الداخلية في جامعة كورنيل تصميم بيت مشترك نموذجي. ونُظمت أربع ورش عمل حول تخطيط استخدامات الأراضي، شملت الراغبين في السكن هناك وحرفيين محليين ومهندسين معماريين، تناقشوا وأخذوا قرارات حول الزراعة والمياه ومواقع الأحياء السكنية والساحة العامة، ووضعت في ختامها خطوط توجيهية للتنمية العمرانية و"مخطط تخيلي" للقرية.
تقول مديرة القرية ليز ووكر: "نحن نطوِّر قرية متميزة تضم أحياء ذات نظام سكني مشترك، ومزرعة عضوية، ومركزاً تعليمياً، ومناطق طبيعية. وتتم حماية أكثر من 80 في المئة من الارض واستصلاحها كمساحة خضراء". وتضيف أن نظام السكن المشترك هذا نشأ في الدنمارك في ستينات القرن العشرين، حيث يدير سكان المنازل المتجاورة حيهم من خلال اتفاق جماعي، ويمتلكون عقارات مشتركة، كالأراضي والبيت المشترك".
عيش مشترك
مثل عشرات القرى البيئية التي أنشئت في الولايات المتحدة وخارجها، يأتي الناس الى ايثاكا وهم يعلمون أنهم سيكونون أكثر من أصحاب منازل وجيران، مدركين أن التغيير في مجتمع من البيئيين يعني "تخفيف الشحم"، أي تدبير الأمور باستهلاك أقل والتخلي عن عادات ومعتقدات اعتادوا عليها.
"أعتقد أن هذا المكان يشكل تحدياً"، قالت ميشيل نولان التي تعيش في القرية منذ تسعة أعوام، "فهو يسهل على الناس أن يفعلوا الشيء الصحيح بيئياً. هنا تجد دائماً شخصاً يعلّمك ويقدم لك الدعم".
يعيش أكثر من 100 شخص بالغ و60 ولداً في منازل القرية الستين المتجاورة، في حيَّين على تلة تشرف على مدينة ايثاكا. هذه المنازل، التي يبلغ ثمن الواحد منها ما بين 120 و185 ألف دولار، تحيط بملعب للصغار وبركة سباحة وحدائق ينمو فيها السوسن والنعناع والروند ونباتات أخرى. وتتوقف السيارات تحت سقائف على مشارف القرية، حيث تمتد ممرات متعرجة مرصوفة بالحصى وصولاً الى المنازل. وحين ينتهي بناء حي ثالث، سيبقى نحو 85 في المئة من مساحة القرية البالغة 70 هكتاراً (700 ألف متر مربع) حيزاً مكشوفاً.
تملأ العائلات كلها طوال الاسبوع مستوعب نفايات سعته 10 أمتار مكعبة، أي نحو ربع الكمية التي يولدها عادة مشروع سكني بهذا الحجم. وكل المخلفات الأخرى يتم تحويلها الى سماد عضوي في أراضي القرية أو يعاد تدويرها. تقول ليز ووكر: "الناس يبحثون عن طريقة أفضل للعيش على هذا الكوكب، ونحن مثال على ذلك".
عيون ساهرة
تضم أراضي القرية البيئية حقولاً زراعية وغابات من الشرق، وتتاخم محمية كوي غلين الطبيعية من الغرب. وهي تبعد نحو ثلاثة كيلومترات عن وسط مدينة ايثاكا، ويخدمها نظام حافلات، وتطمح الى الجمع بين أفضل جوانب العيش المديني والريفي.
مزرعة وست هيفن المجاورة تنتج محاصيل عضوية على مساحة 4 هكتارات كافية لاطعام 1000 شخص، وفيها حظيرة للأبقار اللبونة. وكثيراً ما تتضمن وجبة العشاء في القرية التبولة والحمص المتبل بالطحينة على الطريقة اللبنانية مع تشكيلة من الخضار المنتجة عضوياً والمربى المصنوعة منزلياً.
البيت المشترك في القرية هو بمثابة ملتقى، حيث توجد مرافق مشتركة لغسل الملابس ومطبخ كامل التجهيزات وغرفة طعام يجتمع فيها السكان لتناول أربع وجبات أسبوعياً. وتحتوي منازل القرية على تجهيزات مقتصدة بالطاقة. وتقول سارة باينز، وهي في الثامنة والستين من العمر، انها تتمنى أحياناً لو أن لديها غسالة ومجففة ملابس تخصانها، لكن رغبتها أقوى بالعيش في حي يحبها ويحترمها. وهي تنظف ثلاجة البيت العمومي اسبوعياً كأحد واجباتها، وفي المقابل يتولى آخرون جز العشب في حديقتها وجرف الثلج من أمام منزلها في الشتاء. وتؤكد أن جيرانها يساعدونها في اجتناب كثير من المصاعب التي يواجهها كبار السن.
تقول ليندا غليسر ان عائلتها، قبل الانتقال الى القرية البيئية، كانت تعيش بتعاسة في ولاية نيوجرزي. وأضافت أن لا مكان أفضل من القرية البيئية لتربية الأطفال، بسبب التركيز على العائلة. فليس على الاولاد أن يجتازوا الطرق الخطرة لكي يلعبوا، وهي لا تستعين بحاضنة أطفال حين تضطر الى الخروج، لأن الجيران يتبادلون هذه المهمات. وقالت جارتها اليزابيث هارود: "هناك ستون منزلاً تغص بالامهات والجدّات. العيون ساهرة في كل مكان".
البالغون مطالبون بالعمل من ساعتين الى أربع ساعات أسبوعياً ضمن فريق، وكل فريق مسؤول عن مهمات مثل الطبخ وصيانة الساحات والممرات وتنظيف البيت المشترك. واذا أراد أحدهم استعمال سيارة اليزابيث، مثلاً، فما عليه الا تسجيل اسمه لأخذ المفتاح، وفي المقابل قد تطلب منه اليزابيث غالوناً من الحليب أو تعبئة خزان الوقود. ويقدم حسم للمستأجرين الذين لا يملكون سيارة. ويعتمد كثيرون على الدراجات الهوائية.
تقول ليز ووكر إن عشرات المهندسين يقصدون القرية كل شهر للاطلاع على التقنيات البيئية والسكنية المطبقة فيها. ويزورها أساتذة جامعيون مع طلابهم لاجراء أبحاث وتصميم مشاريع. كما يأتيها أناس من كل حدب وصوب في سياحة بيئية اجتماعية. وقد كتب المهندس المعماري بروس كولدهام في سجل الزوار: "خالجني شعور جميل في هذا المكان، خصوصاً في البيت العمومي. يبدو أن الثلج والشمس الساطعة تجعلان السحر ممكناً، إنه ساحر حقاً".