أصدرت مؤسسة "سولابيليتي" قبل أيام "مؤشر التنافسية المستدامة العالمي" لسنة 2021، وهو التقرير العاشر في السلسلة التي تختص بتقييم التنمية الاجتماعية والبيئية والاقتصادية للدول. ويعتمد التقرير على معطيات توفرها المنظمات الدولية، ويجري تصنيفها ضمن مؤشرات فرعية، هي رأس المال الطبيعي وكفاءة إدارة الموارد ورأس المال الاجتماعي ورأس المال الفكري وإدارة التنمية الوطنية، من أجل قياس القدرات الحالية والمستقبلية للبلدان على توليد وإدامة الدخل والثروة لسكانها.
ولا تزال الدول الإسكندنافية تتصدر الترتيب العالمي، حيث تأتي السويد أولاً ثم فنلندا ثانياً. وتمثل سويسراً خرقاً لهذه الدول في المرتبة الثالثة، ثم تليها الدنمارك والنروج. وباستثناء اليابان ونيوزيلندا، تشغل المراكز العشرين الأولى دول أوروبية. وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة 30 والصين في المرتبة 33 وروسيا في المرتبة 50.
وفيما تتصدر الإمارات والسعودية والمغرب وعُمان الدول العربية الترتيب العام، بتسجيل مراتب متوسطة ما بين 96 و117، تتراجع باقي الدول العربية إلى مراكز متأخرة نسبياً، فنجد مصر في المرتبة (131) تليها الأردن (139) والكويت (139) والجزائر (144) وقطر (146). وتأتي باقي البلدان العربية ضمن المراكز العشرين الأخيرة. وتلعب عوامل الطقس وتوافر المياه العذبة ونوعية الأراضي الصالحة للزراعة وتنوُّع الموارد الطبيعية دوراً كبيراً في تحقيق الاكتفاء الذاتي على نحو مستدام يضمن تجدد الموارد.
مصاعب بيئية تعرقل الدول العربية
يلحظ مؤشر رأس المال الطبيعي الموارد التي تسمح لبلد ما بالاكتفاء ذاتياً، ويأخذ في الاعتبار مستوى نضوب أو تدهور تلك الموارد مما يعرّض الاكتفاء الذاتي للخطر في المستقبل. وتتصدر لاوس مؤشر رأس المال الطبيعي، تليها كولومبيا وباراغواي وبوليفيا، بفضل التنوع البيولوجي الكبير الذي تتمتع به أميركا الجنوبية. وتأتي الدول الإسكندنافية ونيوزيلندا ضمن الدول العشرين الأفضل عالمياً بسبب الكثافة السكانية المنخفضة والتغطية الحرجية ووفرة المياه، فيما تحتل كندا المرتبة 31 والولايات المتحدة المرتبة 39.
وتتأثر الصين (134) والهند (152) بمزيج مقلق من المناخ الجاف والكثافة السكانية واستنزاف الموارد، مما يثير المخاوف بشأن قدرة هذين البلدين على ضمان الاكتفاء الذاتي لمواطنيهما على المدى الطويل.
وتواجه الدول العربية تحديات حقيقية وفق مؤشر رأس المال الطبيعي، فهي بمعظمها تعاني من ندرة الموارد المائية العذبة، وانتشار التصحر، واتساع حالة الجفاف، وتلوث الهواء والماء والتربة، إلى جانب فقدان الأمن الغذائي الذاتي في أكثر من بلد.
وتحتل عُمان المرتبة (92) عالمياً، تليها السودان وليبيا والمغرب في مراكز متوسطة، ثم تأتي مصر في المرتبة والجزائر والسعودية. وتتبعها باقي الدول العربية في مراتب متأخرة جداً حيث نجد 14 بلداً عربياً في المراكز من 155 إلى 180. وتعوِّض البلدان التي تمتلك ثروة نفطية عن ضعف مواردها في المياه العذبة والأراضي الزراعية الخصبة باستثمارات ضخمة في التكنولوجيا، مثل تحلية المياه والزراعة الذكية، الى جانب تنمية القدرات البشرية بتوفير فرص التعليم والتدريب.
ومن الملاحظ أن بلدان العالم ذات التصنيف العالي تتميز بتوافر المياه إلى جانب المناخ الاستوائي والتنوع البيولوجي الغني ووفرة الموارد الطبيعية الأخرى. وفي حين أن معظم هذه البلدان يفتقر إلى رأس المال الاجتماعي والفكري والحوكمة، فإن رأس مالها الطبيعي سيسمح لها بتطوير قدرة تنافسية مستدامة بمرور الوقت.
ويشير التقرير إلى أن 49 في المائة من مؤشرات رأس المال الطبيعي تتخذ اتجاهات سلبية عالمياً، في مقابل 34 في المائة من المؤشرات التي تشهد تطوراً إيجابياً. ويعلَّل ذلك بغياب السياسات الهادفة التي تحمي المحيط الحيوي المتبقي، وتحفّز البدائل الخضراء، وتلحظ كلفة التدمير البيئي الجانبي. ويحذر التقرير من انخفاض إضافي في المعايير البيئية العالمية مستقبلاً، مما سيؤثر على الركائز الأخرى لاستدامة القدرة التنافسية.
ويتقاطع مؤشر رأس المال الطبيعي مع مؤشر كفاءة إدارة الموارد الذي يتحرّى القدرة على إدارة الموارد المتاحة، الطبيعية والبشرية والمالية، على نحو كفوء بغض النظر عما إذا كانت هذه الموارد نادرة أم وفيرة، وسواء كانت محلية أم مستوردة. ويؤثر الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية على رأس المال الطبيعي للبلد، أي قدرته على دعم السكان والاقتصاد بالموارد المطلوبة مستقبلاً.
وتأتي ملاوي في صدارة الدول وفق مؤشر كفاءة الموارد، تليها كينيا والسلفادور. كما حققت الاقتصادات المتقدمة تصنيفات عالية مثل سويسرا (4) وبريطانيا (8)، وجاءت السويد وفرنسا وإيرلندا ضمن أفضل 20 دولة، فيما احتلت ألمانيا المرتبة 52 والولايات المتحدة المرتبة 92.
ويضع التقرير الصين في المرتبة 150 بسبب وجود الصناعات الثقيلة وأنشطة البناء إلى جانب انخفاض كفاءة الموارد. ويبدو أن هذا المؤشر يهدف إلى دعم مبادئ الاقتصاد الدائري، لكنه على نحو جدلي يعطي تقييماً إيجابياً للدول الأقل قدرة على استثمار مواردها أو تلك التي لا تملك موارد معتبرة.
في العالم العربي، على سبيل المثال، نجد اليمن في المرتبة السادسة عالمياً وفق مؤشر كفاءة إدارة الموارد. وتأتي الصومال في المرتبة 21 وجيبوتي في المرتبة 27 عالمياً، وتليها جزر القمر 46 وموريتانيا 54، ثم تأتي باقي الدول العربية في مراكز متأخرة. وهذا بالتأكيد ليس مؤشراً إيجابياً، إذ يعكس ضعفاً شديداً في التنمية واستثمار الموارد الطبيعية، مما يعيق التنمية البشرية والاقتصادية.
الاستقرار والابتكار يعززان التنافس
يمثل مؤشر رأس المال الاجتماعي تقييماً للاستقرار والرفاهية، المتصورة أو الحقيقية، لجميع السكان. ويكفل رأس المال الاجتماعي التماسك بين المواطنين ومستوى معقولاً من التوافق، مما يوفر بيئة مستقرة للاقتصاد ويمنع الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية.
وإلى جانب التأثيرات التاريخية والثقافية المحلية، يرتبط التوافق المجتمعي بعوامل مختلفة، منها أنظمة الرعاية الصحية وإتاحتها للجميع، والمساواة في الدخل والأصول، والهيكلية السكانية التي تضمن توزع الأجيال بشكل متوازن، وحرية التعبير والتحرر من الخوف، وغياب الصراعات العنيفة. وفي ظل هذه الظروف فقط يمكن للاقتصاد أن يزدهر ويثمر ويخلق فرص عمل ودخلا للسكان.
وتتصدر الدول الإسكندنافية مؤشر رأس المال الاجتماعي. وإلى جانب دول أوروبا الغربية ودول البلطيق، التي تهيمن على المراكز العشرين الأولى عالمياً لرأس المال الاجتماعي، تبرز كوريا الجنوبية (13) واليابان (15) وسنغافورة (16). وبسبب معدلات الجريمة المرتفعة وانخفاض خدمات الرعاية الصحية وضعف المساواة، تحتل الولايات المتحدة المرتبة 95 عالمياً.
وتأتي بريطانيا في المرتبة 46 مما يعكس تدهور النسيج الاجتماعي في البلاد. فيما تحتل الصين المرتبة 32 وروسيا 88 والهند 123 والبرازيل 128. وتقع معظم الدول الأفريقية، ولا سيما في منطقة الساحل وجنوبها، في أسفل هذه القائمة بسبب قلّة خدمات الرعاية الصحية وارتفاع وفيات الأطفال ومحدودية حرية التعبير وحالة حقوق الإنسان غير المستقرة.
وفي العالم العربي، تحتل الدول الخليجية مراكز متقدمة نسبياً وفق مؤشر رأس المال الاجتماعي، فنجد الإمارات في المرتبة 23 عالمياً والكويت 42 والسعودية 52 وعُمان 62. وتتراجع باقي الدول العربية إلى مراكز متوسطة، فيما تأتي الدول الأقل استقراراً في مراكز متأخرة.
ومن ناحية أخرى، يعتمد مؤشر رأس المال الفكري على الابتكار، الذي هو بدوره أحد مخرجات التعليم، وهو يسمح للبلدان بالمنافسة في الأسواق العالمية. وتهيمن دول شمال وشرق آسيا مثل كوريا الجنوبية والصين واليابان وسنغافورة، والدول الإسكندنافية كالسويد والدنمارك، على مؤشر رأس المال الفكري. وتُظهر دول شمال وشرق آسيا تطوراً أسرع على هذا المؤشر بالمقارنة مع نظرائهم في الغرب.
ولا تزال أفريقيا ضعيفة الأداء على هذا المؤشر مما يعزز الخوف من الوقوع في شرك الفقر لفترة طويلة. وتحظى تونس بتقييم جيد وفق مؤشر رأس المال الفكري بالمرتبة 42 عالمياً، والأولى عربياً. وتتبعها عُمان في المرتبة 51 والسعودية 62 والإمارات 64 ثم الجزائر 80. وتحتل باقي الدول العربية مراكز متوسطة، باستثناء موريتانيا والسودان والصومال التي تأتي في مراكز متأخرة نسبياً.
ويشير التقرير إلى وجود فجوة كبيرة، تفوق فجوة الدخل القومي الإجمالي بين دول الشمال ودول الجنوب في مؤشر رأس المال الفكري، الذي يعدّ أساس الابتكار في المستقبل، وبالتالي النجاح الاقتصادي. ورغم أن هذا المؤشر يشهد تطوراً إيجابياً على مستوى العالم، إلا أن معظم التحسينات تحدث في أوروبا وأقصى وجنوب شرق آسيا والأميركيتين، باستثناء أميركا الوسطى.
إدارة التنمية مدخل لتحقيق التنافسية
تتشكل المجتمعات والاقتصادات ضمن إطار من البنى القانونية والتنظيمية والمادية التي تضعها وتطورها السلطات والمؤسسات الحكومية غالباً. ويعتمد التقرير في تقييم مؤشر إدارة التنمية الوطنية (الحوكمة) على مجموعة من المعايير، كالتوافق الحكومي والبنى التحتية وبيئة الأعمال وانتشار الفساد والاستقرار المالي. وهو يفترض أن الإطار التنظيمي والبنية التحتية يوفران البيئة المناسبة لازدهار رأس المال الطبيعي والاجتماعي والفكري من أجل توليد ثروة جديدة والحفاظ على الثروة الحالية.
وتتصدر إستونيا ترتيب الحوكمة عالمياً، وتليها إيرلندا والتشيك وفنلندا، ثم ألمانيا واليابان. وتهيمن دول وسط وشرق أوروبا على المراكز المتقدمة، فيما تأتي الصين في المرتبة (45) وروسيا (53) وبريطانيا (62) والولايات المتحدة (86)، وتتراجع الهند إلى المرتبة (120) والبرازيل إلى المرتبة (165). وتظهر هنا أيضاً فجوة واضحة بين الشمال والجنوب حيث تسجل معظم الدول الإفريقية درجات متدنية.
على المستوى العربي، تحتل الإمارات المركز37 عالمياً في مؤشر الحوكمة، وتليها مصر (50) ثم الكويت (60) والسعودية (68) والمغرب (91) والأردن (95). وتحتل باقي البلدان العربية مراكز متأخرة نسبياً، وخاصةً البلدان التي تعاني شكلاً من أشكال غياب الاستقرار كما هو الحال في سوريا والسودان وليبيا والصومال واليمن.
يرى واضعو "مؤشر التنافسية المستدامة العالمي" أن تقريرهم أكثر شمولاً من تقارير تقييم التنافسية التي تصدرها مؤسسات أخرى، ولعلهم يلمحون بذلك إلى تقارير التنافسية السنوية التي يصدرها المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) والمعهد الدولي للتنمية الإدارية في مدينة لوزان السويسرية. وهم يعتبرون أن لحظ الاستدامة في التنافسية ليس ثورةً، بل هو تطوُّر طبيعي يساعد على اتخاذ القرارات وفق نظرة أكثر عمقاً وأوسع نطاقاً لتفادي النتائج السيئة مستقبلاً.