بين جبال محمية ضانا للمحيط الحيوي، وفي نهاية طريق وعرة جنوب البحر الميت، يحتضن وادي فينان الخلّاب نزلاً بيئياً منعزلاً أقامته الجمعية الملكية الأردنية لحماية الطبيعة وتديره شركة الفنادق البيئية. وقبل أيام قليلة، حصل النزل على الجائزة الذهبية في فئة تخفيض الكربون، ضمن احتفالية الإعلان عن الجوائز العالمية للسياحة المسؤولة التي جرت في لندن. كما اختير كفائز نهائي بين الفائزين الخمسة عشر في فئات الجوائز الست، وحصل بالتالي على المرتبة الأولى عالمياً.
ويمثل النزل منذ افتتاحه سنة 2005 إحدى أهم قصص النجاح العربية في السياحة المستدامة ودعم المجتمع المحلي. فما الذي يجعله يحظى بهذه المكانة على خريطة السياحة البيئية الدولية؟ وما هي آفاق السياحة المستدامة في العالم العربي؟
نمو سريع ومخاطر أكبر على البيئة
وفقاً لمنظمة السياحة العالمية، بلغ عدد السيّاح الدوليين في سنة 2018 نحو 1.4 مليار شخص. كما شهدت السنة ذاتها نمو الصادرات السياحية بمقدار 4 في المائة، وهو معدل يتجاوز للسنة السابعة على التوالي نمو الصادرات السلعية الذي يبلغ 3 في المائة. وبالنظر إلى هذه الوتيرة السريعة في النمو، فإن التوقع بوصول عدد السياح الدوليين إلى 1.8 مليار سائح سنوياً بحلول 2030 يبدو محافظاً.
وفي مقابل الفرص الواعدة لزيادة أعداد السيّاح، تلوح في الأفق مخاطر "السياحة المفرطة"، بما تحمله من تأثير سلبي على المقاصد السياحية اجتماعياً وبيئياً، خاصةً عندما تتجاوز قدرتها الاستيعابية. وتعرّف منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة القدرة الاستيعابية بأنها "الحد الأقصى لعدد الأشخاص الذين قد يزورون مقصداً سياحياً في الوقت نفسه من دون التسبب في تدمير البيئة المادية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحصول تناقص غير مقبول في نوعية رضى الزوّار".
لكن رغبة بعض الدول في زيادة عوائدها من السياحة يدفعها لتجاوز القدرة الاستيعابية. على سبيل المثال، تم تحديد القدرة الاستيعابية لجزر غالاباغوس بـ 12 ألف زائر سنوياً، إلا أن الحكومة الأكوادورية تسمح لـ 50 ألف سائح بزيارة هذا الأرخبيل الغني بالأنواع الحية النادرة، وذلك لأسباب اقتصادية.
وعلى الرغم من أن مفهوم السياحة المستدامة، على ما يعنيه من زيارة مكان ما كسائح ومحاولة إحداث تأثير إيجابي على البيئة والمجتمع والاقتصاد، ظهر منذ نحو نصف قرن، إلا أن تحقيق غايات هذا المفهوم لاتزال موضع نقاش مستمر.
من دون سفر لا توجد سياحة، لذلك ترتبط السياحة المستدامة ارتباطاً وثيقاً بالنقل المستدام. وتشهد البصمة الكربونية للسياحة العالمية ارتفاعاً متزايداً سنةً بعد سنة، ليس فقط بسبب ازدياد عدد السياح، ولكن أيضاً نتيجة لزيادة متوسط المسافة التي يقطعها السائح سنوياً.
ويقدر بحث نُشر منتصف 2018 في دورية "نيتشر" الخاصة بتغيُّر المناخ، أن البصمة الكربونية العالمية لقطاع السياحة ازدادت خلال الفترة بين 2009 و2013 من 3.9 إلى 4.5 مليار طن مكافئ كربوني، وهذه الانبعاثات السنوية تمثل 8 في المائة من الانبعاثات العالمية لغازات الدفيئة.
وتتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر تسبباً في الانبعاثات المرتبطة بالسياحة نتيجة كثافة الرحلات الداخلية، تليها الصين وألمانيا والهند. وفي الدول الجزرية الصغيرة، مثل المالديف وموريشيوس وقبرص وسيشيل، تشكل السياحة ما بين 30 إلى 80 في المائة من الانبعاثات السنوية الوطنية.
ويرى معدّو البحث أن هذه النتائج تشير إلى ضرورة إدراج السياحة ضمن الالتزامات المناخية الدولية، بما فيها اتفاقية باريس. كما تشير إلى أن الدول التي تتطلع إلى توسيع السياحة لتعزيز التنمية الاقتصادية تحتاج إلى النظر في تأثير هذه الصناعة على انبعاثاتها الوطنية وأهدافها المناخية.
ويمكن من خلال اتباع مجموعة من الترتيبات خفض البصمة الكربونية للمنشآت السياحية إلى حد بعيد. ولعل ما يُطبَّق في نزل فينان الأردني يعد حالة نموذجية يمكن اعتمادها في الكثير من مرافق السياحة عربياً وعالمياً. فالنزل، المكون من 26 غرفة تستوعب 60 نزيلاً في الليلة الواحدة، مستقل عن شبكة الكهرباء العامة منذ افتتاحه، وهو يؤمن حاجته من الكهرباء من خلال نظام ألواح كهروضوئية توفر 72 طناً من انبعاثات الكربون سنوياً.
ويعتمد النزل على الإضاءة باستخدام الشموع المصنعة محلياً، مما يوفر فرص عمل إضافية لأهالي المنطقة. كما يستخدم لتجفيف الغسيل الأسلوب التقليدي بالنشر في الهواء الطلق، ويؤمن المياه الساخنة بواسطة ألواح التسخين الشمسية. ويعمل نظام إدارة المياه العادمة وفضلات الطعام العضوية في النزل على تحويل البقايا إلى غاز حيوي يُستخدم في الطهي، في حين تذهب المياه المعالجة لري النباتات.
ويستخدم النزل مخلفات عصر الزيتون كمصدر للطاقة بديل عن الحطب، مما يعني توفير أربعة أطنان من الأشجار سنوياً. ونظراً لوجود النزل في منطقة منعزلة نسبياً، يتم توصيل الطعام إليه مرةً واحدةً في كل أسبوع، مما يؤدي إلى تخفيض البصمة البيئية للنقل. ومن الواضح أن الترتيبات المتبعة في نزل فينان لا تمثل فقط نجاحاً على المستوى البيئي، بل هي أيضاً نجاح على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، من خلال توفير فرص العمل للأهالي والحفاظ على الموارد.
البحث عن موطئ قدم بأي ثمن
وفيما يشهد العالم العربي تعافياً في قطاع السياحة، بعد حالة التراجع خلال السنوات الماضية نتيجة غياب الاستقرار تحت تأثير أحداث الربيع العربي ونشوب بعض النزاعات، فإن الدول العربية معنية أكثر من غيرها في إعادة النظر بسياساتها ليكون هذا التعافي قائماً على أسس الاستدامة وحماية الموارد الطبيعية.
ويشير تقرير "تنافسية السياحة والرحلات"، الصادر هذه السنة عن المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى حصول تحسن في تنافسية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اعتباراً من 2017، لاسيما في البلدان العربية شمال أفريقيا. وينسب التقرير هذا التحسن إلى زيادة الأمن والأمان والانفتاح أكثر على العالم ودعم الاستدامة البيئية وتطور بنية النقل الجوي إلى جانب الأسعار التنافسية التي توفرها المنطقة.
وحسب التقرير، تأتي الإمارات في صدارة الدول العربية من حيث التنافسية، حيث تحتل المرتبة 33 عالمياً، تليها قطر في المرتبة 51 عالمياً، ثم عُمان في المرتبة 58، فالبحرين ومصر والمغرب والسعودية والأردن وتونس والكويت ولبنان والجزائر واليمن. ويبلغ عدد السياح الدوليين الوافدين إلى المنطقة نحو 85 مليون سائح، ينفقون 85 مليار دولار سنوياً ويوفرون فرص عمل لأكثر من 4.655 ملايين شخص.
وفي إطار تنويع موارد اقتصادها الوطني بعيداً عن الوقود الأحفوري، تسعى الدول الخليجية إلى زيادة عوائدها من قطاع السياحة الدولية وتشجيع السياحة الداخلية. وتتمتع منطقة الخليج بتنوع طبيعي وإرث حضاري يمثلان قيمة مضافة، إلى جانب البنية التحتية المتطورة والموقع الجغرافي المتميز ومناخ الاستقرار وبيئة الأعمال المرنة التي تدفع السياحة قدماً إلى الأمام.
ففي السعودية مثلاً، يهدف برنامج التحوُّل (رؤية السعودية 2030) إلى زيادة مساهمة قطاع السياحة، بحيث تصل عائداته إلى 10 في المئة من الناتج الوطني، مع توفير 1.6 مليون فرصة عمل في سنة 2030. وتعد البلاد أكبر وجهة للمسافرين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باجتذابها لأكثر من 24 مليون شخص في سنة 2018، وإن كان أغلبهم من زوار المشاعر المقدسة. كما تمتاز بتوفر البنية التحتية المتميزة والأسعار التنافسية. وفيما كانت متطلبات التأشيرة الصارمة تعيق تدفُّق السيّاح، استحدثت السعودية مؤخراً تأشيرة سياحية تتيح للزوار من جميع أنحاء العالم القدوم إليها وفق ترتيبات أكثر مرونة. وعدا عن الشواطئ والشعاب المرجانية والتنوُّع الطبيعي بين الواحات الصحراوية والجبال، تحتضن السعودية مواقع أثرية مهمّة لم تتم الإضاءة عليها على نحو كافٍ من قبل.
وفيما ينعكس تطوير القطاع السياحي في الدول الخليجية إيجاباً على المحيط الحيوي من خلال دعم إنشاء المحميات الطبيعية والحفاظ على مواقع التراث العالمي، كما في محمية رأس الخور في إمارة دبي التي تعد مقصداً هاماً لهواة مراقبة الطيور المهاجرة، لاسيما طيور الفلامنغو الوردية، فإن الأثر البيئي لا يظهر بشكل صريح في معظم الخطط الوطنية لتطوير هذا القطاع. وتكاد المؤشرات تقتصر على المعايير المرتبطة بالاقتصاد (عدد ليالي إقامة السائح، عدد التأشيرات السياحية، عدد المرشدين السياحين، وغيرها) من دون ربط معلن مع القدرة الاستيعابية للمقاصد السياحية.
وباستثناء المغرب، تأثرت الدول العربية في حوض المتوسط إلى حد كبير بفقدان الاستقرار منذ منتصف 2010، وفقاً لمعطيات منظمة السياحة العالمية والبنك الدولي. وأدت الحرب في سوريا إلى القضاء بشكل تام على قطاعها السياحي في منتصف 2012، بعد نمو كبير في أعداد السياح الدوليين خلال السنوات السابقة. وقد بدأ القطاع السياحي في مصر وتونس مؤخراً يشهد بعض التعافي نتيجة الاستقرار وعودة الأمان.
ويرى تقرير صادر عن الصندوق العالمي للطبيعة سنة 2015 أن منطقة المتوسط تشهد تدفقاً غير مسبوق للسياح. ومن المتوقع خلال السنوات الخمس عشرة القادمة أن تتوسع الأنشطة المتعلقة بالبحر، بما فيها النقل البحري والرحلات والمأكولات البحرية وغيرها، مما يخلق تنافساً متزايداً على الموارد الطبيعية المحدودة ويؤدي إلى مزيد من الضغط على النظام البيئي المجهد مسبقاً.
ويتطلب تحقيق الاستدامة وحماية البيئة في قطاع السياحة العربية مراجعة شاملة للسياسات القائمة والخطط المستقبلية، تقوم على المنهج الإقليمي، الذي يتيح تنظيم التدفقات السياحية ويعيد توجيهها إلى مقاصد أخرى لا تعاني من مشاكل الاكتظاظ والضغط على النظم البيئية والموارد الطبيعية. كما يجب السعي لتحقيق التكامل مع القطاعات الأخرى مثل الزراعة والحرف اليدوية، للتخفيف من آثار الأزمات بحيث لا تكون السياحة هي العامل المصيري في ديمومة المجتمعات المحلية وإنما داعم هام لمواردها، وهذا يسمح للسياحة بالاستمرار في النمو.
يبقى أن رغبة البلدان العربية في الحصول على موطئ قدم على خريطة السياحة العالمية يجب ألا تتجاهل الحاجة لتعزيز السياحة المستدامة، التي يتمتع فيها الزوّار والمضيفون بعلاقات متوازنة ومحترمة ومثمرة، تقدّر التراث البيئي والإنساني والثقافي الفريد للمنطقة، مع ضمان التنمية الاجتماعية الاقتصادية الشاملة التي تراعي القدرة الاستيعابية للنظم الإيكولوجية، وتعزيز التكامل بين قطاعات الأعمال في المقاصد السياحية.