يرى عدد من المفكّرين والروّاد أن كوكب الأرض ليس أكثر من مركبة صغيرة تطفو في الفضاء، مما يتطلب توجيه سياساتنا الاقتصادية لتنسجم مع محدودية العالم الذي نعيش فيه. وعلى مر التاريخ، كانت مقاربتنا لتحقيق الازدهار والنمو تقوم على ترويض واستغلال موارد نعتقد أن لا نهاية لها كما يفعل "رعاة البقر" الذين يهتمون بمراكمة الثورة على حساب كل شيء آخر.
نتيجة لذلك، ارتفعت شهية العالم لاستهلاك الموارد، فازدادت كمية المواد الأولية المستهلكة من 27 مليار طن في سنة 1970 إلى 100 مليار طن في هذه السنة، وفي المقابل تقارب نسبة المواد التي يعاد تدويرها حالياً نحو 10 في المائة من وزن المواد الأولية المستهلكة. وهذا يشير إلى التضخم الكبير في استهلاك الموارد، وكذلك إلى الفجوة الواسعة التي يمكن ردمها لترشيد الاستهلاك من خلال زيادة التدوير.
إن تبني النمط الخطي في الإنتاج والاستهلاك (الاستخراج، التصنيع، الاستخدام، التخلص) أدى إلى استغلال الموارد الطبيعية على حساب قدرة النظم الإيكولوجية على التعافي، وتسبب بآثار ضارة على كافة المستويات المحلية والعالمية. على سبيل المثال، تقدّر التكاليف الصحية المرتبطة بتلوث الهواء بأكثر من خمسة تريليونات دولار سنوياً، مع نحو 8 إلى 9 ملايين وفاة يمكن تجنبها في جميع أنحاء العالم سنوياً.
وتبلغ كمية المواد البلاستيكية التي تُرمى بعد استخدامها لمرة واحدة 95 في المائة من مجمل كمية البلاستيك المنتجة عالمياً مما يعني خسائر مالية تتراوح ما بين 80 إلى 120 مليار دولار في السنة، بغض النظر عن العوامل السلبية الأخرى لاستهلاك البلاستيك بشكل غير عقلاني.
يفترض الاقتصاد الخطي أنه ستكون هناك دائماً وفرة في المواد الخام وقدرة غير محدودة على التخلص من النفايات في البيئة الطبيعية. ومن الواضح أن المجتمعات البشرية لا يمكنها الاستمرار وفق هذا النمط من التفكير إذا أرادت تلبية حاجات سكانها المتزايدين، والحفاظ على صحة الكوكب، وضمان قدرة الأجيال المقبلة على النمو.
ضمن إطار الاستدامة، تكون بعض الموارد غير كافية ومستويات الاستهلاك غير متوافقة مع متطلبات تحقيق أهداف التنمية. والبديل هو بناء اقتصادات مستدامة تدرك قيمة الموارد الطبيعية من خلال "الاقتصاد الدائري".
من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري
جرى تحديد مكوّنات واستراتيجيات نموذج الاقتصاد الدائري لأول مرة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وخلال العقود الماضية كانت هناك مراجعات مستمرة لهذا النموذج. وفيما كانت منهجية الاقتصاد الدائري تقوم فقط على إدارة النفايات، بما فيها الجمع والفصل والتدوير وإعادة الاستخدام، فإن المقاربة الحالية تتبنى أيضاً التصميم الأمثل للمنتجات وتقليل الاستهلاك والإدارة المستدامة للموارد.
إن الهدف العام للاقتصاد الدائري هو استخدام الموارد بأفضل طريقة متاحة لأطول وقت ممكن. فكلما جرى تناقل الموارد عبر عمليات المعالجة المختلفة أو من خلال إعادة الاستخدام أو الإصلاح أو إعادة التصميم أو إعادة التصنيع كلما قلت الحاجة إلى مواد خام جديدة وتناقصت كمية المخلفات.
على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، تنفد المياه العذبة بمعدلات تنذر بالخطر، وقد يؤدي ذلك إلى انقراض العديد من أنواع الحيوانات، حيث من المحتمل أننا سنحتفظ بالمياه لأنفسنا ولغذائنا. فإذا توقفت الشركات عن الإفراط في استخراج مصادر المياه الجوفية يمكننا حل مشكلة نقص المياه في العالم. ويساعد الاقتصاد الدائري في تحقيق ذلك من خلال اعتماد الشركات على أنظمة إعادة التدوير للمياه الرمادية.
وينطوي تسريع الانتقال إلى الاقتصاد الدائري على إجراء تحول واسع في قطاع الأعمال وفي ذهنية المستهلك، وهذا يعني اعتماد عمليات انتاج وأنماط استهلاك مستدامة. ولتحقيق ذلك، يجب وضع قوانين وسياسات جديدة تقوم على تنقيح وإعادة تصميم نماذج العمل، أو وضع نماذج جديدة تناسب الصناعات وتأخذ بعين الاعتبار الكلف البيئية والاجتماعية طويلة الأمد لعمليات الإنتاج والتخلص، إلى جانب ابتكار تقنيات جديدة وإحداث تغييرات جوهرية في أنماط الاستهلاك.
وكانت الحكومة الهولندية حددت في سنة 2016 مجموعة من الإجراءات التي يمكن أن تسهم في تحقيق التحول السريع إلى الاقتصاد الدائري، وهي تشمل: خفض الطلب على المواد الخام عن طريق زيادة كفاءة استخدام المواد في سلسلة التوريد. واستبدال المواد الخام الأحفورية أو النادرة أو المنتجة بشكل غير مستدام بمواد أخرى متاحة بسهولة ومنتجة بشكل مستدام. وتطوير أساليب إنتاج مبتكرة منخفضة الكربون وتصميم المنتجات بذكاء. وتشجيع الاستهلاك المدروس من خلال إعادة الاستخدام، والتصميم الذكي، وإطالة عمر المنتج، واستخدام مواد ثانوية أو معاد تدويرها، وتبني اقتصاد المشاركة.
ولا يقتصر الأمر على هولندا إذ وضعت العديد من الدول، مثل ألمانيا وفنلندا والدنمارك وسلوفينيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، استراتيجيات وخطط طريق لها نحو الاقتصاد الدائري الذي يضمن الحفاظ على قيمة المنتجات والمواد والكيماويات والموارد في الاقتصاد بأعلى فائدة وقيمة لأطول فترة ممكنة.
من مزايا الاقتصاد الدائري توفيره في استهلاك المواد الخام مما يعني فصل النمو الاقتصادي عن استخدام الموارد وما يرتبط بها من عوامل خارجية. على أن هذا الفصل في قطاع أو إقليم ما قد يخفي خلفه آثار بيئية واجتماعية سلبية في أماكن أخرى. على سبيل المثال، لا يزال استبدال مورد غير متجدد بمورد آخر، مثل إحلال أنظمة الطاقة النظيفة كبديل عن الوقود الأحفوري، يتطلب موارد غير قابلة للتجدد وتحويل العبء البيئي إلى أماكن أخرى كما في حالة استيراد السلع المستهلكة للموارد من البلدان النامية.
ومن ناحية أخرى، يجب على السياسات التي تشجع على التصميم البيئي للمنتجات أن تراعي الآثار الضارة المحتملة على الصحة ونوع الجنس، مثل المخاطر التي تهدد النساء والأطفال بسبب إعادة التدوير. وتشكل أنشطة إعادة التدوير غير الرسمية خطراً على البيئة وعلى حياة نحو 15 مليون شخص فاعلين في هذا المجال عالمياً. ويعتبر الأطفال والنساء من بين الفئات المستضعفة التي تعمل في هذا القطاع وتتعرض لمواد كيميائية ومعادن ثقيلة خطرة.
من الاقتصاد الأخضر إلى الاقتصاد المستدام
من النماذج المبكرة على السياسات التي تدعم الانتقال إلى الاقتصاد الدائري قانون "الإدارة المغلقة للنفايات ودورة المواد" الذي تبنته ألمانيا في سنة 1996 لاستعادة المواد من النفايات البلدية ونفايات الإنتاج، ومبادرة إعادة التدوير اليابانية التي صدرت في "القانون الأساسي لتأسيس مجتمع قائم على إعادة التدوير" سنة 2000.
أصبحت هذه الإجراءات أمثلة لما يعرف بـ 3Rs التي تعني الإقلال وإعادة الاستخدام والتدوير، وهي أساس التصنيع والاستهلاك الأخضرين. مع ذلك، توسع التركيز خلال العقد الماضي من التصنيع "الأخضر" إلى التصنيع "المستدام" فظهرت فكرة 6Rs التي تتضمن إضافة لما سبق الاسترداد (دورة حياة لاحقة)، وإعادة التصميم (جيل تالي من المنتجات)، وإعادة التصنيع (استعادة المنتج بشكل جديد).
وفي سنة 2002، اعتمدت الصين الاقتصاد الدائري كاستراتيجية تنموية، وأصبح هذا الأمر نافذاً من خلال قانون "تعزيز الاقتصاد الدائري" الذي صدر في سنة 2009. كما تبنت المفوضية الأوروبية في سنة 2011 "خارطة طريق لأوروبا تتسم بالكفاءة في استخدام الموارد"، واستبدلتها في سنة 2015 بـ "إغلاق الحلقة: خطة عمل الاتحاد الأوروبي من أجل الاقتصاد الدائري". ولم تأتِ هذه الخطوات الصينية والأوروبية من فراغ بل استفادت من الأبحاث والسياسات السابقة التي ركزت على إدارة النفايات في أكثر من مكان حول العالم.
ويغطي الهدف 12 من أهداف التنمية المستدامة التي تبنتها الأمم المتحدة في سنة 2015 الإنتاج والاستهلاك المستدامين. ويُشرك هذا الهدف جميع الجهات الفاعلة للإسهام في تحقيق التنمية المستدامة، بما فيها القطاع الخاص. كما يبرز أهمية توفير المعلومات للمستهلكين وتثقيفهم بشأن التنمية وأنماط الحياة المستدامة.
ويشجع هذا الهدف القطاع العام على تبني ممارسات الشراء العمومي المستدامة، فضلاً عن التحول نحو الاستهلاك والإنتاج المستدامين في النظام الغذائي والقطاع السياحي. كما يشدّد على الحاجة إلى وضع سياسات للاستهلاك والإنتاج المستدامين، في حين يتناول التمويل وبناء القدرات باعتبارهما وسائل للتنفيذ، ويلحظ معالجة الدعم الحكومي للوقود الأحفوري.
وكان مؤتمر المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) الذي انعقد في بيروت سنة 2015 أشار إلى أن الدعم غير المتوازن لأسعار الماء والطاقة والغذاء في المنطقة العربية يشجع على أنماط استهلاكية تتسم بالتبذير والهدر، ولا يساعد بالضرورة على تخفيف العبء عن الفقراء، إذ يذهب نحو 90 في المائة من أموال الدعم إلى الأغنياء.
وأكّد تقرير المنتدى الذي حمل عنوان "الاستهلاك المستدام" على أن اعتماد أنماط ملائمة للاستهلاك شرط لتحقيق الإدارة الرشيدة للموارد بما يساهم في دعم مسار التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة. ولما كانت زيادة الإنتاج تستنزف الموارد ولا تؤدي وحدها إلى ضمان حصول جميع الناس على حصة عادلة منها، فلا بد من تعديل أنماط الاستهلاك وتعزيز الكفاءة، لأن هذا أقل كلفة على الاقتصاد والبيئة معاً.
إن الانتقال إلى الاقتصاد الدائري ضرورة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة إذ لا توجد موارد طبيعية كافية للحفاظ على نمو الاقتصاد العالمي على أساس النموذج الخطي. وهو يتيح الفرصة، ليس فقط من أجل معالجة قيود الموارد الأساسية، ولكن أيضاً من أجل منظومة اقتصادية أكثر عدلاً وشمولية.