كانت نساء عرب الأهوار في العراق يعملن مع الرجال في جمع القصب وصيد الأسماك ورعي الجواميس، لكنهن بعد جفاف الأهوار صرن حبيسات البيوت. في تموز (يوليو) 2016 أدرجت منظمة اليونسكو الأهوار الجنوبية ضمن قائمة معالم التراث العالمي. ويؤمل أن يساعد هذا التصنيف العمل الدولي والمحلي على استعادة النظام الإيكولوجي الفريد للمنطقة وحماية تراثها وتعزيز الدور الحيوي لنسائها
طوال آلاف السنين، كانت المستنقعات المعروفة بالأهوار عند ملتقى نهري دجلة والفرات واحة خضراء في أرض قاحلة، وملاذاً لمجموعة كبيرة من الحيوانات البرية. ثقافة «المعدان»، أو عرب الأهوار، وثيقة الارتباط بهذا النظام البيئي الفريد. كان القصب يستخدم في بناء المنازل والحرف اليدوية وصنع الأدوات وكعلف حيواني لآلاف السنين. وتظهر «المضايف»، أو بيوت القصب، في النقوش السومرية التي تعود إلى أكثر من 5000 عام.
لكن هذه الثقافة تتلاشى مع جفاف الأهوار.
لقد حدثت تغيرات كبيرة خلال العقود الأخيرة في الأراضي الخصبة لمنطقة الأهوار، التي اشتهرت بأنها مهد الزراعة ومنشأ بعض أقدم المدن في العالم. وتقلصت دائرة الحياة اليومية لنساء عرب الأهوار مع تلاشي الموارد الطبيعية للأرض التي كن يزرعنها تقليدياً، وفق تقرير لفريق دولي من الباحثين حول «تأثيرات جفاف الأهوار في العراق على المعرفة الثقافية والمعيشية لنساء الأهوار»، نشر في عدد آذار (مارس) 2016 من مجلة «صحة النظم الإيكولوجية والاستدامة» التي تصدرها جمعية البيئة الأميركية بالاشتراك مع جمعية البيئة الصينية. وتعد هذه الدراسة أول جهد لتوثيق العلاقة الثقافية لنساء الأهوار مع الخدمات البيئية التي تقدمها هذه الأهوار.
كتبت المؤلفة المشاركة للتقرير نادية المظفـر فـوزي، عالمة البيئة البحرية العراقية التي عـادت من نيوزيلندا إلى مسقط رأسها البصرة عام 2009 للتدريس وإجراء البحوث في جامعة البصرة: «كان سكان الأهوار يعيشون وسط المياه محاطين بكل شيء أخضر، الحقول والقصب وقطعان الجواميس. أما الآن فعليهم المشي خمسة كيلومترات أو عشرة للوصول إلى الموارد التي يحتاجون إليها. لقد أصبحت الأرض جافة وبنّية اللون».
تدرس نادية فوزي تأثير تغير المناخ على التنوع البيولوجي في الأهوار والخليج وشط العرب الذي يربط بينها. ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض دفق المياه في نهري دجلة والفرات، وضخ المياه الجوفية، إلى دخول المياه المالحة من الخليج إلى شط العرب الذي يتكون من التقاء نهري دجلة والفرات. وتقع البصرة على شط العرب، وتبعد نحو 70 كيلومتراً عن مصب الالتقاء، وهي ثانية أكبر مدن العراق.
تقول نادية فوزي: «عندما عدت عام 2009، كنت أعرف أن هناك الكثير من المشاكل التي نتجت عن تجفيف النظام السابق للأهوار. ونعرف أن لذلك تأثيراً كبيراً على إنتاج الأسماك ونوعية المياه في شط العرب وفي شمال الخليج».
وخلال دراستها لشبكات المياه، توسع اهتمامها ليشمل الآثار الاجتماعية للتغير البيئي وفهم السكان لتأثير البيئة في حياتهم. لم يكن لدى العراق قوانين بيئية ملموسة قبل تغيير الحكومة عام 2003، وما زالت هذه القوانين في أدنى سلم الأولويات وسط الفوضى الحالية في البلاد. تقول فوزي: «الوضع في الأهوار مختلف تماماً عما كنت أراه في السبعينات وبداية الثمانينات. فقد كان للنساء دور حيوي في النظام البيئي، إذ كنّ يعملن مع الرجال في جمع القصب وصيد الأسماك. وكنا نراهنّ في السوق عندما يأتين لبيع منتجاتهن مثل السمك وحليب الجاموس والجبن واللبن».
«نحن لا نعلّم بناتنا»
أجرت فوزي وزملاؤها استطلاعاً سألن فيه نساء الأهوار عن حياتهن وأنشطتهن. وباستثناء النساء اللاتي يعشن على أطراف محمية الأهوار الوطنية التي أنشئت عام 2013، حيث شهدت جهود استعادة الأهوار بعض النجاح، ذكرت النساء أن حياتهن اليومية تقتصر الآن على الأعمال المنزلية، وباتت قلة قليلة يخرجن لجمع القصب أو لرعاية الجواميس. وأشارت كيلي غودوين، التي تعمل في منظمة خدمات الإغاثة للألفية والتنمية الدولية وقد شاركت في الدراسة: «النساء الأكبر سناً، اللواتي كن بالغات قبل الحرب، قلن لنا: «كنا نصنع أقراص الروث ونجمع القصب ونرعى الجواميس، والآن نحن في المنزل فقط».
قابلت غودوين 34 امرأة تراوحت أعمارهن بين المراهقة والسبعين أو أكثر، في «هور الحمار» شمال مدينة البصرة خلال الفترة بين كانون الأول (ديسمبر) 2013 وشباط (فبراير) 2014. وكان أكثر من نصفهن تجاوزن الخمسين، وقد ولدن ووصلن إلى مرحلة البلوغ قبل الحرب في الثمانينات أو الدمار في التسعينات. ووصفت 60 في المئة من اللواتي لم يبلغن الأربعين يومهن بـ«المنزلي» كلياً.
قالت النساء الأكبر سناً للباحثين: «نحن لا نعلّم بناتنا، لأن الماء جف، والأرض يبست، وليس هناك قصب نجمعه، والمياه مالحة جداً لجواميسنا».
التجفيف والحرب وتغير المناخ
مع أن للرجال والنساء أدواراً ثقافية منفصلة في الأهوار، إلا أن العمل التقليدي للمرأة أخرجها من المنزل كي تجلب دخلاً إضافياً للأسرة من خلال مبيعات السوق. وتهتم النساء بالجواميس وجمع القصب لنسج الحصر والسلال وأقفاص الحمام وغيرها من الأدوات. ويصنعن الألبان والأجبان من حليب الجاموس الدسم، ويحولن الروث إلى وقود، ويربين الدجاج والأبقار والأغنام، ويساعدن في زراعة الرز والقمح والنخيل. وفي العادة، تتولى النساء، لا الرجال، أخذ الأسماك ومنتجات الألبان والحرف اليدوية لبيعها في أسواق المدينة.
تقول المؤلفة المشاركة في الدراسة ميشيل ستيفنز، الأستاذة في جامعة ولاية كاليفورنيا في سكرامنتو: «كانت الأهوار أرضاً مزروعة ومميزة بالحصاد الانتقائي والصيد البري وصيد الأسماك. وكانت تمتلك الكثير من الموارد الطبيعية التي يستخدمها سكان الأهوار، تماماً كالأماكن الطبيعية التي كان السكان الأصليون يستخدمونها في الزراعة هنا في ولاية كاليفورنيا». وكما في كاليفورنيا، أضافت ستيفنز أن تغير المناخ في الأهوار ينبئ بصيف أكثر حرارة وجفافاً في المستقبل، مع تقلص كميات الثلوج في جبال طوروس في تركيا حيث ينبع نهرا دجلة والفرات.
أدت الحرب وعدم الاستقرار السياسي المستمر في العراق إلى تعظيم المشاكل المحدقة بالأهوار، خصوصاً التلوث والطلب الكبير على المياه التي تحفظها. وقد تم إنعاشها إلى حد ما في منتصف العقد الماضي، بعد تجفيفها بشكل شبه كلي في التسعينات. ويمكن رؤية تدفق المياه وما ينتج عنه من تخضير في صور القمر الاصطناعي «تيرا» التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) التي التقطت بين عامي 2000 و2010، وسرعان ما عاد القصب إلى النمو حين رجعت المياه.
في التسعينات، قام النظام السابق بتجفيف الأهوار لتسهيل اكتشاف النفط وللانتقام من العشائر التي شاركت في انتفاضات ضد الحكومة. أما عرب الأهوار، الذين لم يفرّوا من الجبهة الأمامية خلال الحرب بين إيران والعراق، فقد أجبروا على المغادرة عندما أصبحت أرضهم قاحلة.
بعد حرب الخليج الثانية ورحيل صدام حسين دمر العراقيون تحويلات المجاري المائية التي تم تعديلها، فعادت المياه إلى الأهوار، ومن ثم عاد الكثير من عرب الأهوار إلى موطنهم. لكن المرونة الظاهرية للنظام البيئي ولثقافة الأهوار كانت قناعاً للهشاشة. ويخشى الباحثون أن تكون الأهوار اقتربت من عتبة اللاعودة، في وقت تنتقل الأدوار من جيل الكبار الذين يمتلكون ثروة من المهارات اللازمة لازدهار الأهوار، إلى جيل شاب لم يتعلم هذه المهارات.
لقد انخفض حجم المياه في نهري دجلة والفرات إلى 20 في المئة مما كان قبل الحرب. وازدادت ملوحة المياه الباقية حتى باتت غير صالحة للشرب. وضرب الجفاف المنطقة بقسوة عام 2007، فخسرت كثيراً من المكاسب والنجاحات التي تم تحقيقها للنظام البيئي. أما الجيل الذي نشأ خارج الأهوار فلا يملك خبرة عملية للعيش فيها، ولا يرغب في التكيف مع نمط حياة الآباء والأجداد.
قصة نجاح
تقول غودوين إن المياه في البصرة مالحة إلى درجة أن بلورات تتشكل على أطباق الطعام حين تجف بعد غسلها. ويؤدي ازدياد الاعتماد على المياه الجوفية إلى تفاقم تداخل المياه المالحة من الخليج.
على رغم أن نهري دجلة والفرات يجريان على امتداد طول العراق، فإن الماء يأتي من خارج حدوده، ما جعله تحت رحمة السياسات المائية لبلدان المنبع المجاورة، وهي تركيا وسورية وإيران، التي كثفت مشاريع تنمية مواردها المائية في السنوات الأخيرة. ويصعّب عدم الاستقرار السياسي الحالي إيجاد حلول ديبلوماسية فعالة لقضايا المياه.
تقول نادية فوزي: «استعادة النظام البيئي وثقافة الأهوار ستعتمد على الجهود الديبلوماسية لتأمين كمية كافية من المياه. ونلاحظ في محمية الأهوار الوطنية، وهي أول حديقة وطنية في العراق، عودة الممارسات الثقافية واستعادة النظام الاجتماعي والبيئي بنجاح، ويمكن استخدامها كنموذج لإحياء مناطق أخرى من أهوار بلاد ما بين النهرين. ولكن هذا غير ممكن من دون مياه».
توصي الدراسة بتنفيذ برامج للحفاظ على المهارات والمعارف التقليدية، وتطوير سوق للحرف اليدوية لدعم النساء وأسرهن، وإلا فمع اختفاء الجيل الأكبر سناً سيفقد قريباً ما بقي من المعارف السومرية القديمة وأنماط الحياة التقليدية.
قالت غودوين: «انفتحت عيوننا إذ رأينا الظروف التي يعيش فيها بعض سكان الأهوار. لقد تصحر كثير من الأراضي بالقرب من مدينة البصرة». لكنها أضافت أن زيارة الأهوار تجربة مثيرة ومفرحة أيضاً، وأن زيارة المنطقة التي عادت إلى الحياة كانت أشبه بالسحر.
وتابعت: «كنت محظوظة بالجلوس مع أولئك النسوة، أشرب الشاي وأسمع قصصهن. ليت لدي حلولاً ملموسة أعود بها إليهن لحفظ التقاليد الثقافية واستعادة النظام الإيكولوجي. أعتقد أن عرب الأهوار يشعرون بأنهم منسيون ومهمشون. ليتني أستطيع أن أقول لهم إنهم ليسوا منسيين».
ليزا ليستر كاتبة متخصصة بالعلوم لدى جمعية البيئة الأميركية.