تدفق نهر الحمم الملتهبة من بركان إتنا في أواخر تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، مروعاً سكان جزيرة صقلية الايطالية. وأمطرت رماداً على مدينة كاتانيا الرابضة عند سفح جبل النار. وتراكضت نساء في الشوارع وهن يحملن أطفالهن مولولات، فيما انهالت كتل من الصخور على السيارات والأرصفة والبيوت. وأشعلت الحمم حرائق في أحراج الصنوبر. وعملت جرافات تحت الخطر لبناء حواجز توجّه سيول الحمم بعيداً عن منتجعات التزلج، الرابضة على منحدرات البركان الذي يعلو 3350 متراً.
وبعد أيام، في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر)، ثار بركان ايل رفنتادور في الاكوادور بعد سبات دام 26 سنة، وأطلق في الأجواء غيمة فطرية الشكل ارتفعت حتى علو 16 كيلومتراً. وعلى بعد 95 كيلومتراً الى الشرق، سقط على العاصمة كيتو أكثر من مليون طن من الرماد، وحملت الرياح سحابة من الرماد البركاني عبر مرتفعات جبال الانديز نحو المحيط الهادئ. وفرّ مئات المزارعين الذين يعيشون قرب قاعدة البركان تاركين بيوتهم ومزارعهم ومواشيهم تحت رحمة الحمم.
في العالم حالياً نحو 600 بركان ناشط و10 آلاف بركان في سبات. وهي تتوزع على ثلاثة أحزمة تجاور مناطق الزلازل. الحزام الأول هو "حلقة النار" التي تشمل نحو 75 في المئة من البراكين الناشطة، وتضم سواحل المحيط الهادئ في آسيا وأميركا الشمالية والجنوبية. ويمتد الحزام الثاني من حوض البحر المتوسط الى جزر الهند الشرقية. ويقع الحزام الثالث على السلاسل الجبالية وسط المحيطات.
تتنوع البراكين من حيث الحجم والشكل وطريقة الثوران، لكن المحتويات الكيميائية والمعدنية تكاد تتماثل في جميع أنواع الحمم التي تطلقها، وإن اختلفت في النسب، ومنها السيليكا وأكاسيد الكالسيوم والصوديوم والألومنيوم والبوتاسيوم والكبريت والمغنيزيوم والحديد. ومحتوى السيليكا يحدد أساساً الفئة التي ينتسب اليها نوع الحمم.
جبابرة ينفثون النار
مضى زمن طويل قبل أن يكتشف العلماء المعاصرون كيف تثور البراكين. فمنذ القدم، كان الرواة يسردون خرافات حول جبال ترعد وتقذف الدخان واللهب. ففي منطقة البحر المتوسط، التي تحوي حوالى 15 بركاناً نشطاً على مر التاريخ، ظن الشعراء الأوائل أن الثورات البركانية تسببها مخلوقات خارقة تسكن داخل البراكين. ونسبت الميثولوجيا الاغريقية همدرة جبل إتنا المتكررة وتدفق الحمم منه الى هيجان التنين تيفيوس ذي المئة رأس الذي سجنه زيوس تحت كتلة الجبل. وتذكر أسطورة أن هيفستوس، رب النار والحدادة، أقام مصهر معادن على جزيرة ليمنوس في بحر إيجه وراح يقذف الصخور الملتهبة في الأجواء. أما الرومان فكانوا يعتقدون أن فولكان، رب النار والمعادن عندهم، أقام مصهره تحت جزيرة قرب ساحل صقلية تدعى فولكانوا، وهو الاسم الذي اشتقت منه كلمة بركان "volcano".
نحن لم نعد نؤمن بأن جبابرة تقيم مصاهر داخل البراكين. لكن ما يحدثه بركان ثائر من رعب ودمار لا يقل اليوم عما كان يصيب الناس في قديم الزمان. وما زالت القبائل الهندية في ولاية أوريغون الأميركية، مثلاً، تتوارث معتقدات عن الانفجار الهائل لجبل مازاما قبل نحو 7000 عام. فبين ليلة وضحاها تحول الجبل الشامخ الذي بلغ ارتفاعه 3650 متراً الى حوض عميق امتلأ لاحقاً بمياه المطر وأصبح يعرف ببحيرة فوهة البركان (Crater Lake).
وبعض الثورات المأسوية التي شهدها القرن العشرون تركت انطباعات مماثلة لا تمحى من الذاكرة، ومنها بركان بيليه في جزيرة مارتينيك الكاريبية، الذي خلف 30 ألف قتيل عام 1902. وهو كشف أن البراكين يمكن أن تثور بطرق مدمرة للغاية لم يتوقعها أحد.
فحتى ذلك الحين، كان معظم العلماء يعتقدون أن البراكين عموماً تثور بطريقتين: انفجارية وانحباسية. ومثال على الثورات الانفجارية بركانا فيزوف وكراكاتوا. ففي العام 79 الميلادي ثار بركان فيزوف (1250 متراً) بعد قرون من الهدوء. وتدفقت أنهار الرماد والوحول الملتهبة على منحدرات الجبل، ودمرت مدن بومبايي وهركولانيوم. وبلغت سماكة الانقاض 18 متراً، وقتل 10 في المئة من سكان المدن الثلاث، أي نحو 20 ألفاً. وفي العام 1883 حدث انفجار في جزيرة كراكاتوا الاندونيسية، حيث قتلت الحمم المتدفقة 2000 شخص. وتلى الانفجار انهيار قمة البركان الذي بلغ ارتفاعه 79 متراً الى عمق 300 متر تحت سطح البحر، فلم يبق ظاهراً الا جزء صغير من الجزيرة، وقتل أكثر من 3000 شخص آخر. وأحدث الانفجار موجة بحرية عارمة (تسونامي) أغرقت أكثر من 31 ألف شخص في جزيرتي جاوة وسومطرة المجاورتين، وبلغت الشواطئ البريطانية. وقد لوَّن الرماد المنبعث غروب الشمس حول العالم طوال سنتين. أما في الثورات الانحباسية، كما يحدث في هاواي، فتطلق البراكين أنهاراً من الحمم التي تتدفق بهدوء على المنحدرات باتجاه البحر.
لكن ثوران بركان بيليه كان مختلفاً. فبدلاً من أن ينطلق عمود الحمم صعوداً فحسب، تفجر أفقياً أيضاً وتدفقت الحمم بسرعة هائلة على منحدرات الجبل واجتاحت مدينة سان بيار، مدمرة جدرانها الحجرية السميكة وحارقة مبانيها الخشبية وخانقة جميع سكانها ما عدا اثنين، منهما مجرم كان محبوساً في زنزانة تحت الأرض. ولم ينجُ الا قلة من بحارة السفن الراسية في ميناء المدينة الذي تحول الى جحيم. وقال أحدهم واصفاً ما حدث: "سمعت هديراً خافتاً متواصلاً، كأنما أكبر مصفاة نفط في العالم تشتعل على قمة الجبل. ثم دوى انفجار هائل. وتفتت الجبل إرباً. لم يكن هناك أي انذار. وانشق جانب البركان، واندفع باتجاهنا جدار كثيف من اللهب، مطلقاً صوتاً بقوة ألف مدفع. انهالت موجة النار علينا وفوقنا مثل ومضة برق، مثل إعصار من نار. شاهدتها تضرب إحدى السفن فتحولها الى كتلة من لهب. وزحفت النيران على مدينة سان بيار التي تلاشت أمام أعيننا. وما لبث الهواء أن أصبح حاراً وخانقاً، وبتنا في محرقة. وأينما لامست كتلة النيران البحر غلت المياه وأطلقت غيوماً بخارية هائلة. قبل الانفجار كانت ساحات المدينة تعج بالسكان، وبعده لم يعد يشاهد أحد".
على رغم أن الجيولوجيين يفتقرون الى أجهزة لقياس القوة النسبية للانفجارات البركانية، فهم يستطيعون احتسابها بدراسة بعض العوامل، مثل حجم المواد المقذوفة والمسافة التي تبلغها وارتفاع الغيمة الانفجارية. ولاحتساب الحجم النسبي لانفجارات حدثت قبل التاريخ وليست لها سجلات مدونة، وتلك التي لم يبلغ عنها شهود عيان، ابتكر العلماء مقياساً يدعى "مؤشر الانفجارية البركانية" (VEI)، وهو شبيه بمقياس ريختر للزلازل، وله نظام معايرة رقمي من صفر الى ثمانية. وكلما كان الرقم مرتفعاً كان الثوران أقوى وأعنف تفجراً.
في لائحة "براكين العالم" التي أصدرها المعهد السميثسوني، والتي تضم 1511 بركاناً معروفاً، لم يحدد العلماء أي انفجار خلال العشرة آلاف سنة الأخيرة بقوة 8 درجات على مؤشر الانفجارية البركانية. فقط أربعة انفجارات كانت بقوة 7 درجات، بما فيها انفجار تامبورا في اندونيسيا عام 1815 الذي يعتبر الأضخم في الأزمنة "الحديثة"، اذ قذف حوالى 85 كيلومتراً مكعباً من الحمم الكثيفة، وأحدث "عاماً من دون صيف" حيث أتلفت تسعون موجة صقيع المحاصيل من أوروبا الى شمال شرق القارة الاميركية. لكن العلماء يعتقدون أن بركان توبا الاندونيسي الذي ثار قبل 74 ألف سنة كان أعظم بكثير، اذ قذف أكثر من 2500 كيلومتر مكعب من الحمم، جرت في أنهار هائلة ملتهبة كونت رسوبيات على مساحة 25 ألف كيلومتر مربع بسماكة أكثر من 300 متر. ويقدّرون أن غيوم الرماد التي نتجت عنه سببت ظلمة عمت الكرة الأرضية تقريباً وأحدثت برودة عالمية شديدة ربما كانت سبباً أساسياً للعصر الجليدي الأخير. وكان بركان يلوستون في أميركا الشمالية أحدث انفجاراً مماثلاً قبل نحو مليوني سنة.
لحسن حظ البشرية أن انفجارات بهذا الحجم لم تحدث في الزمن التاريخي.
كادر
أخطر البراكين في العالم
شهدت العقود الأخيرة نحو 60 ثورة بركانية في السنة. وقد صنف برنامج الأمم المتحدة الخاص بالبراكين، ومقره مدينة نيكولوسي الصقلية، أخطر 15 بركاناً في العالم، وهي: مون لو (هاواي)، رينير (الولايات المتحدة)، فيزوف (ايطاليا)، إتنا (ايطاليا)، فاخينسكي كورياكسلي (روسيا)، تايد (اسبانيا)، سانتا ماريا (غواتيمالا)، كاليراس (كولومبيا)، سانتوريني (اليونان)، نيراغونغو (الكونغو)، اولاوون (بابوا نيوغينيا)، ميرابي (اندونيسيا)، تال (الفيليبين)، ساكوراجيما (اليابان)، اونزن (اليابان).
ومن أهم الثورات البركانية المسجلة عبر التاريخ:
79: فيزوف، ايطاليا. دمر مدن بومبايي وهركولانيوم وستابي، وقتل نحو 20,000 شخص.
1783: هيكلا، ايسلندا. غمرت 20 قرية بنهر من الحمم التي قتلت 9350 شخصاً.
1792: أونزن، اليابان. قتل ما لا يقل عن 14,000 شخص.
1815: تامبورا، إندونيسيا. قتل 10,000 شخص من سكان الجزيرة، وتوفي 82,000 لاحقاً من الجوع والمرض. وهذا أكبر عدد مسجل لضحايا بركان.
1883: كراكاتوا، إندونيسيا. بعد سلسلة ثورات انفجر البركان محدثاً دوياً هائلاً سمع على بعد 3000 كيلومتر، فقتل 5000 شخص، وأحدث موجة عملاقة (تسونامي) اجتاحت الشاطئ وأغرقت 31,400 شخص آخر.
1902: بيليه، المارتينيك. اندثرت كل الحياة على الجزيرة بعد الثوران الذي قتل 26,000 شخص.
1919: كيلوت، جزيرة جاوة الاندونيسية. دمرت 100 قرية وقتل 5000 شخص.
1951: لامنغتون، بابوا نيوغينيا. قتل ما لا يقل عن 3000 شخص.
1980: سانت هيلينز، الولايات المتحدة. انزلقت غيمة حارة كثيفة من الرماد والغاز على سفوح الجبل، حارقة كل شيء في طريقها. وتفحمت الأشجار حتى مسافة 28 كيلومتراً بفعل الحرارة، وقتل 66 شخصاً. ووصل الرماد الى أجواء مدن الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة على بعد 4000 كيلومتر.
1985: نيفادو ديل رويز، كولومبيا. طمرت كتلة من الوحول والصخور المنصهرة بلدة أرميرو بكاملها، فقتلت أكثر من 25,000 شخص.
1991: بيناتوبو، الفيليبين. الثوران الأعنف في التاريخ المسجل، وقد قتل حوالى 800 شخص. وقذفت غيمة من الرماد الكثيف في الجو مسافة 20 كيلومتراً، وانتشر الرماد فحجب ضوء الشمس عن العاصمة مانيلا وبلغ سنغافورة.
2000: مايون، الفيليبين. قذف أنهاراً من الحمم الملتهبة تدفقت على منحدراته. وغطى الرماد المتساقط القرى مجبراً حوالى 70,000 شخص على الفرار. وقتلت امرأة.