وسط بيداء قاحلة لا يسمع فيها الا صوت الرياح ولا يرى إلا الحجر الأصم، حطَّ الصحراوي رحاله ليبدأ رحلة التحدي
غرداية بوابة الصحراء الجزائرية. تتربع على هضبة صخرية كلسية اسمها العمارة، تتخللها أودية عديدة تتجه كلها من الشمال الغربي نحو الجنوب الشرقي، لتصب في بحيرة تكتنفها الرمال شمال غرب ورفلة. وهي تبعد 600 كيلومتر جنوباً من الجزائر العاصمة. مساحتها حوالى 86 ألف كيلومتر مربع، ويراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 300 و800 متر.
على مر العصور، تسببت عوامل الحت والانجراف في المنطقة بتشكيل قمم وانخفاضات شديدة الانحدار تدعى شبكة ميزاب. وتغطي رمال الطمي مجاري الأودية، وتحتها طبقات من الكلس الرمادي الأبيض والطين المائل للاخضرار. وأهم الاودية التي تشكل شبكة ميزاب هي: واد فرير وواد نستا وواد ميزاب وواد متليلي. وهي أودية جوفية تجري على عمق نحو ثلاثين متراً. المتأمل لمنظر الشبكة يجدها خالية من كل أشكال الحياة النباتية، ما عدا واحات نخيل تحيط بالمدن. وهذا بسبب قلة الأمطار.
في هذه المنطقة الصحراوية الصخرية، حيث يحسب لكل قطرة ماء ألف حساب ولكل شبر يوضع ألف تخطيط، راح الانسان يطوّع الصخر ليبني فوقه مسكنه، تاركاً التربة للزراعة. وأصبحت معادلة "المسكن والاخضرار" حاضرة في كل حساباته، ولا يجوز لأي طرف من المعادلة ان يحل محل الآخر حسب الأعراف.
إصرار الانسان على البقاء والتعمير في غرداية دفعه الى التفكير في نظام محكم يضمن التوزيع العادل للماء. لذلك اعتمد في تصميمه لهذا النظام المميز للمنطقة على النقاط التالية: إتجاهات الأودية، نقاط تلاقيها، حدودها، مجاريها.
الماء والحياة اليومية
صفير البكرة هو أول صوت يبدأ به ساكن غرداية يومه. لقد اعتاد عليه حتى اعتبره منبهه الطبيعي. بعد ذلك يأتي ملء الماء ونقله الى المسجد، باعتباره عملاً مقدساً فيه منفعة للناس. ويكون هذا قبل أذان الصلاة. يحمل الماء في "طشت" نحاسي، ثم يُسخن فوق خشب النخيل، لكي يجده المصلون مناسباً للوضوء والاغتسال. في القديم لم تكن هناك حمامات، ولا سبيل ماء. لذلك اعتبر المسجد أكثر المرافق حاجة للماء، فتم ربطه بأهم آبار المدينة. ويستهلك المصلي كمية تفي بحاجته، لا أكثر، مستعملاً الابريق. ولقد حفر سكان غرداية حوالى ثلاثة آلاف بئر تجاوز عمق الكثير منها ثمانين متراً.
بعض فطور الصباح، الذي يلي وقت الصلاة، يمضي كل الى عمله. وفي حين يذهب الرجال الى الحقول والبساتين لسقيها، وهو أهم أعمالهم، ينصرف الصبيان الى جلب الماء، ذهاباً وإياباً بين المنزل والبئر لتوفير الماء اللازم للحاجات اليومية. واذا استلزم الأمر غياب الصبيان عن هذه المهمة، فانها توكل الى النساء اضافة الى ما يقمن به من أشغال منزلية. ويخصص ممر يسهل لهن عملية جلب الماء بعيداً عن الحرج. ويكون عند البئر متطوع ينظم عملية استخراج الماء.
نظراً لملوحة معظم الماء المستخرج، فان استعماله في البيت يقتصر على الغسيل وتنظيف الخضر والفواكه والأواني. أما مياه الشرب فتجلب بصعوبة من آبار قليلة محفورة في السرير الرملي للواد. وهي عذبة سائغ شرابها، بفضل الترشيح الطبيعي عبر حبات الرمل. وللابقاء على الماء منعشاً، يوضع في قربة من جلد الماعز، وتضاف اليه بعض المنكهات الطبيعية مثل الزعفران والقرنفل. ولأن المسافة بعيدة بين آبار الماء العذب والمدينة، تعمل مجموعة من الرجال في جلبه مقابل أجر، مستعملين الحمار كوسيلة نقل جيدة وغير مكلفة. ويتنافس أهل الخير على التطوع لتأمين حاجة المسجد من الماء العذب.
البئر منبع الحياة
لكل حي بئره الخاصة، وهي المصدر الأساسي للماء في المدينة. وتتميز آبار غرداية بطريقة تهيئتها. اذ يتم الحفر الى أعماق تراوح بين 20 و60 متراً للوصول الى الطبقة الجوفية. بعدها تستعمل الحجارة لبناء البئر وتبطينها. وعلى جانبيها تبنى ركيزتان سميكتان عموديتان حيث يثبت القضيب الافقي حامل البكرة. وحول البكرة يمرر حبل الدلو. ويقوم السكان باستخراج الماء عمودياً، خلافاً لما يحدث في واحات النخيل حيث يُعتمد على الدواب في استخراج الماء باتجاه أفقي. وتصل كمية الماء المستخرج الى ثلاثين ليتراً، بمعدل مرتين في الدقيقة.
ولأن المجتمع الميزابي (نسبة الى واد ميزاب) تميز بالتنظيم والتوزيع العادل للثروات، فقد صنفت البئر على أنها ملك عام "حبوس"، يتطوع أهل الخير لصيانتها ومراقبتها. ويُسمى هذا العمل الجماعي التطوعي "التويزة". ولا يقتصر فعل الخير على هذا، بل يمتد الى الاهتمام بالنخيل وغيره ليستفيد منه الجميع وحتى ابن السبيل.
أما اذا كان للبئر شركاء يستغلونها، فيطبق ما ورد في كتاب تاريخ بني ميزاب: "غالباً ما نجد شركاء متعددين لبئر واحدة، يتم تقسيط استغلال مياهها ليلاً نهاراً. فيقسم اليوم الواحد الى أربع وعشرين خروبة، وتشمل الخروبة ثمانية أثمان وأربعاً وعشرين موزونة تنقسم الى ثلاثين درهماً. الحصص الليلية تسمى السوداء وحصص النهار تسمى البيضاء. ان ملكية ماء البئر مستقلة تماماً عن ملكية الأرض، ويمكن لكل شريك في ماء البئر أن يبيع بعض حصصه أو كلها أو يكري البعض منها. هناك آبار خاصة من حيث أن عيونها لا تنضب ولو في أوقات الجفاف. وبديهي أن ثمن هذه الآبار وثمن حصص فيها في منتهى الغلاء".
الانسان وصراع البقاء
في هذه البيداء القاحلة تتذبذب حياة الانسان تذبذب التساقط. فأحياناً تمر سنوات لا تسقط فيها قطرة ماء، وأحياناً يكون الطوفان في دقائق. هذه البيئة جعلت الميزابي يكتسب سلوكيات معينة ليتكيف مع الظروف القاسية، فيتهيأ لسنوات الجفاف حتى في أوج الخصب.
للميزابي رحلتان، رحلة الصيف الى الواحات ورحلة الشتاء الى القصر، وهو مكان التجمع السكاني. والواحات امتداد أخضر على طول سهل واد ميزاب، وهي رئة المدينة وخير دليل على قوة ارادة سكان غرداية أمام التحدي. ويعود الفضل في بقاء هذه الواحات الى نظام السقي الذي أرساه الأوائل، اذ يعتبر من أقدم وأصلح أنظمة السقي في العالم.
يتكون هذا النظام التقليدي من ثلاثة عناصر متكاملة تضمن جر المياه وصرفها ثم توزيعها، وهي: السدود والأمشاط وسهول النشر. كل هذه العناصر موجودة في بداية السيل نظراً لملاءمة المكان، على خلاف نهاية السيل حيث تكون السدود مهيأة لحجز الماء. ويسمح هذا النظام الرشيد باستغلال المياه استغلالاً كاملاً، بحيث يخصص لكل حي ممر خاص. وعندما يكون سيل الماء ضعيفاً، فان الممرات الباطنية تجعله يصب في القناة الكبرى حيث يتجمع كل الماء. وعلى حافة القناة صخرة كبيرة سوداء مثبتة في الأرض بمواد بناء محلية صلبة، فاذا غمر ماء الواد هذه الصخرة فذلك دليل على أن القناة الكبرى قد امتلأت وأن الممرات الباطنية التي تقود الماء نحو واحات تلك الناحية مغمورة تماماً. عندئذ تقوم مجموعة من الرجال بسد ممرين أو ثلاثة بواسطة مواد صلبة، موجهين الفائض عبر فتحة تنتهي الى سد لتجميع الماء بكميات كبيرة لتغذية الآبار.
وفي حال كان واد ميزاب قوياً الى حد يتجاوز الممرات الباطنية والسد، مواصلاً طريقه نازلاً الى المدينة الآهلة، فان مجموعة الرجال المكلفة بمراقبة الواد تبدأ باطلاق عيارات نارية انذاراً للسكان كي يتفادوا مجرى الواد وكي ينقذوا دوابهم. واذا صادف أحدهم في طريقه عنزة أو كلباً أو حماراً مربوطاً فانه يطلق سراحه. وتتعالى صيحات الانذار: "اهربوا، اهربوا، الواد قادم!" وحين يصير الكل في مأمن من الخطر، يقفون على حافتي الواد مستبشرين بالنعمة، معبرين عن شكرهم بتقسيم الصدقات.
السماء أمطرت والسدود امتلأت، فكيف توزع هذه الثروة بطريقة عادلة على كل الحقول والبساتين؟ لم يغفل سكان المنطقة، ولا سيما ذوو الرأي السديد، هذا الأمر. فزودوا كل حقل بقناة يتناسب عرضها فردياً مع مساحة الحقل وعدد أشجاره، مستعملين الجريد (قضيب سعف النخل) كأداة قياس. ويشترط أن يساهم صاحب الحقل أو البستان في ترميم نظام السقي، أو يرسل من ينوبه في ذلك، وإلا سُدت القناة الخاصة بأرضه. أما بالنسبة الى الاستعمالات الأخرى، كالشرب، فقد أقيمت سبل ماء مزودة بحنفيات، تغذيها آبار ارتوازية حفرت حديثاً، للاستقاء خاصة أثناء نوبات الجفاف الدورية المهلكة للحرث والزرع، وتخفيفاً لعناء استخراج الماء بالطريقة التقليدية. وهذا ما أدى الى تحسن مستوى معيشة السكان.
ولقد استُغلت الجبال المحيطة بغرداية من كل جانب لتكون جزءاً من سلسلة العناصر المكونة لنظام السقي، بحيث بنيت عليها سواقي ماء تساعد على صب مياه الأمطار في الحقول والبساتين التي لا يسمح لها موقعها المرتفع بالافادة من السيل.
بالأمس وجد ساكن غرداية نفسه وحيداً في صحراء قاحلة، وليس في يده سوى أدوات بدائية. الجفاف أمامه والجفاف وراءه. أحس أنه هالك لا محالة. فاستحضر عقله وارادته وقرر البقاء.