لم يحظَ إنسان بحب مندوبي كل دول العالم بلا استثناء مثل عالمنا الكبير الدكتور مصطفى كمال طلبه، محور هذا التحقيق الذي أجريناه معه على شرفة منزله المطل على نيل بولاق في قلب القاهرة. وكلمة "بولاق" منحوتة عن اللغة الفرنسية "beau lac" أي البحيرة الجميلة.
سيرة عالم وديبلوماسي مصري قاد برنامج الأمم المتحدة للبيئة نحو عشرين عاماً طابعاً بصماته على أهم المعاهدات التي تحكم بيئة العالم
فتح له برنامج الأمم المتحدة للبيئة أبوابه عام 1973 ليدخله نائباً للمدير التنفيذي. ولم تأت هذه الوظيفة مصادفة، ولم يرشح لها من فراغ. فقد كان رئيس الوفد المصري الذي تم تشكيله لحضور مؤتمر استوكهولم للبيئة البشرية الذي ولد عنه برنامج الأمم المتحدة للبيئة. هذا المؤتمر، الذي عقد في 5 حزيران (يونيو) 1972 وبسببه كرس هذا التاريخ سنوياً يوم البيئة العالمي، كان أول مؤتمر للبيئة. ومذذاك والعالم يقف على أطراف أصابعه مثل الباليرينا، وقد ظهرت ملامح الكارثة المحدقة في التلوث الضارب في الماء والتربة والهواء وجوف الأرض.
قبل ذلك بثماني سنوات أصدرت راشيل كارسون كتابها التاريخي "الربيع الصامت" الذي كان بمثابة صرخة في فضاء الكرة الأرضية. وكانت تقصد به أن الربيع الذي يحمل معه أهازيج العصافير وهي تقفز من أوكارها في رحلة العمر وراء التفريخ والإنجاب، وإذ تهجر الفراخ أوكارها في أول رحلة طيران في السماء المفتوحة، سوف تقضي المبيدات على كل حياة من طير وحيوان ونبات وإنسان بسبب سموم الأرض.
استقر صديقنا في برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وبعد ثلاث سنوات انتخبته الجمعية العمومية للأمم المتحدة مديراً تنفيذياً للبرنامج بدرجة وكيل أمين عام الأمم المتحدة، وأعادت انتخابه لأربع فترات متتالية مدة كل منها أربع سنوات. وودع الأمم المتحدة عقب انتهاء مؤتمر ريو دي جانيرو الذي عقد في 5 حزيران (يونيو) 1992. في نهاية ذلك العام، وفي حفل كبير في نيروبي عاصمة كينيا، مقر البرنامج الذي رأسه سبعة عشر عاماً متتالية، تم تكريم الدكتور مصطفى كمال طلبه الذي تحمل عبء مصائب البيئة على كوكب الأرض طوال عقدين من الزمن، سافر فيها حول الكرة الأرضية أكثر من عشر مرات لافتتاح مشاريع وحضور مؤتمرات وتقديم مساعدات وإنجاز ورش عمل وحضور توقيع بروتوكولات. جاء هذا التكريم لأنه كان سفير البيئة وراعيها وحاميها.
وبعد أن ترك الأمم المتحدة وعاد إلى وطنه مصر، رأس وفد بلاده إلى لجنة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لثماني سنوات متتالية. وانتخب لرئاسة اللجنة عام 1997 عندما تحولت إلى لجنة تحضيرية للدورة الخاصة للجمعية العمومية للأمم المتحدة التي عقدت ذلك الصيف لمراجعة ما تم بشأن تنفيذ مقررات مؤتمر قمة الأرض عام 1992.
ولعل من أبرز ما صرح به الدكتور طلبه طوال عمله في الأمم المتحدة هو الأرقام والبيانات والإحصاءات التي تبوح بأسرار التلوث وتدهور البيئة. كان يزأر في وجه دول العالم منبهاً الى الخطر المقبل. وكان طرحه للقضايا يتسم بالأسلوب العلمي الرفيع، فهو كان أستاذاً بكلية العلوم في جامعة القاهرة.
في أروقة الأمم المتحدة
تخرج مصطفى كمال طلبه من كلية العلوم في جامعة القاهرة عام 1943 متخصصاً بعلم النبات، بمرتبة الشرف الأولى. وبعد ست سنوات حصل على درجة الدكتوراه في علم أمراض النبات من الكلية الإمبراطورية في جامعة لندن. ونال شرف زمالة الكلية الإمبراطورية بعد 40 عاماً في 1988.
قبل أن نبحر معه في رحلة الحياة، نرصد المناصب التي احتلها، وهي كلها منسجمة مع تخصصه، باستثناء حقيبة الوزارة التي تقلدها وزيراً للشباب عام 1971، عقب وفاة جمال عبد الناصر وإبان حكم أنور السادات. عدا ذلك فقد عين محاضراً وأستاذاً في علم النبات في جامعة بغداد حتى عام 1959.
وجاء إلى القاهرة ليتقلد منصب أمين عام مساعد للمجلس الأعلى للعلوم في مصر. ثم أصبح أميناً عاماً للمجلس، فمستشاراً ثقافياً ومديراً للبعثة التعليمية في واشنطن، وأستاذاً لعلم الأحياء المجهرية في المركز القومي للبحوث، فوكيلاً لوزارة التعليم العالي. واحتل بعد ذلك منصب وزير الشباب، ليشغل بعده منصب رئيس الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا. ولم يمكث في هذا المنصب إلا سنة ونصف سنة تحمل أثناءها مسؤولية إنشاء الأكاديمية ودفع خطواتها الأولى، كما رأس الوفد المصري إلى مؤتمر البيئة البشرية الذي عقد في استوكهولم عام 1972.
من هنا نبدأ مع الدكتور طلبه، باعتبار أن السفر إلى السويد لحضور هذا المؤتمر وانتخابه نائباً لرئيس المؤتمر كانا علامة تحول غيرت مجرى حياته، ودخل منها رواق الأمم المتحدة حيث عاش عشرين عاماً. وعند هذه المحطة كان قد نشر نحو 95 بحثاً في أمراض النبات، والمواد المضادة للفطريات، وفسيولوجيا الكائنات الحية الدقيقة، وأشرف على رسائل الماجستير والدكتوراه لثمانية من تلاميذه وصلوا جميعاً إلى أعلى المناصب في مصر.
وعلى مدى أقل من عقدين أصدر 600 بياناً ومقالاً عن البيئة تنبه إلى الخطر المحدق، وكتب في تلك القضية أكثر من عشرة كتب وموسوعات. ولا يدعي الدكتور طلبه أنه قرأ الخطر الآتي قبل العالم كله، ولكنه يجزم أن البيانات والأرقام التي كان يتلقاها من كل دول العالم عن أخطار البيئة عكست أموراً كثيرة، كان من أخطرها كتاب "بيئة العالم" (1972-1992) الذي صدر عام 1992 قبل مؤتمر قمة الأرض مباشرة واعتبر "الكتاب المقدس" للبيئة. كان الكتاب الجامع والشامل الذي ناقش الأرقام ورسم لوحة بالبيانات لكل الأنشطة على الكوكب وما ينبعث منها. فقد أوضح، وفي وقت مبكر جداً من العقد الماضي، أن هدف التنمية القابلة للاستمرار لا يمكن بلوغه من دون تغيرات هامة في الطرق التي تم التخطيط بها كمبادرات للتنمية. وشدد الدكتور طلبه على أن أهداف التنمية وخططها، حتى إذا كانت سليمة بيئياً، لا تنجح من دون المساهمة العامة، لدرجة أن خبراء التنمية أطلقوا عليه اسم "مهندس التنمية المستدامة".
لقد جال الدكتور طلبه وزملاؤه في البيئة والتنمية في كتاب "بيئة العالم"، الذي تعرض للغلاف الجوي والأوزون وتغيرات المناخ والتلوث البحري والمياه العذبة والتصحر وتدهور الغابات والسموم والنفايات الخطرة والزراعة والصناعة والطاقة والنقل والسياحة. وأبحر مع أحوال البشر والنمو السكاني والمستوطنات والصحة البشرية والسلم والأمن البيئي. وتضمنت قائمة كتب الدكتور طلبه "التنمية بلا تدمير" (1982)، "شؤون تتعلق بالأرض" (1983)، "التنمية القابلة للاستمرار" (1987)، "أرض واحدة موئل واحد" (1987)، "تطور مفاهيم البيئة" (1988)، "إنقاذ كوكبنا" (1992)، "ارتباط مع المستقبل" (1992)، "دبلوماسية البيئة العالمية" (2000)، موسوعة أنظمة دعم البيئة" (2001)، و"موسوعة تغيرات البيئة العالمية" (2001).
حياة حافلة
شخصية الدكتور طلبه غنية بالخبرة، فقد كان وما زال عضواً عاملاً أو عضو مجلس إدارة أو رئيساً لمعاهد ومجالس دولية وإقليمية ومحلية. فهو عضو في المعهد العالي للموارد في واشنطن، ولجنة اختيار المرشحين لجائزة تايلور للايكولوجيا في الولايات المتحدة، والمجلس الاستشاري لمعهد أسبين للدراسات الإنسانية في الولايات المتحدة، ولجنة اختيار المرشحين لجائزة فولفو للبيئة في السويد، والمعهد الدولي للبيئة والتنمية في بريطانيا، والجمعية المصرية للنبات، والمعهد العلمي المصري، والجمعية الأميركية لفسيولوجيا النبات، والجمعية العراقية للبيولوجيا، والمعهد الدولي للتكنولوجيا السليمة بيئياً في السويد، ومجلس إدارة معهد القانون التابع للمنظمة البحرية الدولية في مالطا، والمجلس التنفيذي لـ"الأرض عام 90" في اليابان، والمجلس الاستشاري الرفيع المستوى للأمم المتحدة عن التنمية والبيئة، والمجلس القومي المصري المتخصص للتعليم والبحث العلمي، والمجلس القومي المصري المتخصص للتنمية الاقتصادية (وهما مجلسان يقدمان المشورة الى رئيس الجمهورية)، ومجلس جامعة قناة السويس، والمجلس التنفيذي للثقافة العلمية ومجلس بحوث البيئة في أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، والجهاز المصري لشؤون البيئة، والمركز الدولي للبيئة والتنمية.
أما الأوسمة فحدث عنها ولا حرج. لقد حصل على وسام العلوم والتكنولوجيا من الدرجة الأولى (مصر)، وجائزة الدولة التشجيعية في البيولوجيا (مصر)، وميدالية حل المشاكل سلمياً (جامعة هيوستن – الولايات المتحدة)، ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى (مصر)، وميدالية البيئة (الأرجنتين)، وميدالية رامديو (الهند)، وجائزة العمل الدولي المميز (جامعة مينيسوتا – الولايات المتحدة)، وجائزة أرض واحدة (مركز رينيه دوبو – الولايات المتحدة)، والميدالية التذكارية للبيئة (الاتحاد التشيكوسلوفاكي لحماية الطبيعة)، وجائزة القطرة البلورية (الرابطة الدولية للموارد المائية)، وميدالية البيئة (جمعية نحو عالم أفضل)، وجائزة ساساكاوا الدولية للبيئة، وأوسمة رفيعة من إسبانيا والأردن ويوغوسلافيا وهنغاريا والمغرب وبولونيا.
تبقى الدكتوراه الفخرية في العلوم وعددها سبع شهادات، من جامعات موسكو وبلجيكا وكوريا والصين ولندن وكينيا والمكسيك.
هذه الرحلة عمرها 80 عاماً. ويسألني الفضوليون: هل الدكتور طلبه متزوج؟ الجواب: نعم، وهو سعيد في زواجه، ومتفائل دائماً بأن العالم سوف يصحو يوماً قريباً لتحمل مسؤولياته في إيقاف تدهور البيئة حولنا قبل أن نصل إلى مرحلة اللاعودة.
قال لي: لقد جاء أحد أعضاء السفارة الأميركية في القاهرة وقابلني في مكتبي وطلب مني إبداء الرأي في مقترحاتهم بشأن ما يمكن أن يناقش في قمة التنمية المستدامة الذي عقد في جوهانسبورغ العام الماضي. وأعطيتهم وجهة نظري، وكانت معارضة لما يريدون طرحه".
الدكتور طلبه صرح بوضوح أن الولايات المتحدة لم تصدق على أي اتفاقية خاصة بالبيئة منذ اتفاقية الأوزون وبروتوكول مونتريال لعام 1989. وهي ليست مستعدة أن تسمح بالمنافسة في الأسواق العالمية. لقد هربت من توقيع اتفاقية التنوع البيولوجي، وكان بوش الأب رئيسها وقتئذ، باعتبار أنها تضع قيوداً على الصناعات الكيميائية والدوائية في استخدام الكائنات الحية. وها هو بوش الابن يرفض اتفاقية تغير المناخ لإرضاء أصوات أصحاب المصالح الأميركيين من رجال البترول والصناعة.
لقد عاش الرجل في الأمم المتحدة عشرين عاماً، نجح خلالها في أن يكون دفاعه عن القضية التي آمن بها: حماية البيئة. لم يستطع أحد مهما كبر أن يلوي ذراعه. عمل ما كان يرى أنه الصواب، وأنه في صالح البيئة لكل الناس وليس لفئة معينة، لا شمال ولا جنوب، لا شرق ولا غرب. كان حاداً في دفاعه، وأمانته في عمله أملت على الجميع احترامه.