منذ أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريره الأول عن مؤشرات التنمية البشرية عام 1990، صدرت تقارير سنوية، دولية وإقليمية، عن مؤشرات اجتماعية واقتصادية وبيئية متنوعة. ولقد قوبلت هذه المؤشرات بردود فعل مختلفة، خاصة في العالم العربي. فبعض الحكومات العربية لم يكترث بهذه التقارير، وحتى لم يقرأها، والبعض الآخر اتخذ مواقف دفاعية ازاءها، مما يشير الى اضمحلال الفكر العلمي في التعامل مع هذه المؤشرات، وعدم محاولة استيعاب معانيها. فالهدف الرئيسي من هذه المؤشرات ليس توجيه اللوم الى هذه الحكومة أو تلك، وإنما إطلاق التحذير لحث الحكومات على اتخاذ الإجراءات التصحيحية المختلفة. وبدلاً من أن تتحرك الحكومات بأسلوب ايجابي وفعال (proactive) اتخذت مواقف سلبية دفاعية (reactive)، واستمرت الأوضاع كما هي ''محلَّكَ سر''، أو تراجعت بصورة مطردة.
ففي شباط (فبراير) 2002 أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي (المعروف باسم منتدى دافوس) بالاشتراك مع جامعتي ييل وكولومبيا الأميركيتين تقريراً عن ''دليل الاستدامة البيئية'' شمل 142 دولة، تم ترتيبها طبقاً لدليل تم حسابه من واقع 20 مؤشراً تتكون من 68 متغيراً. وجاء ترتيب الدول العربية متأخراً على سلم دليل الاستدامة البيئية مما أثار حفيظة بعضها.
لقد سبق أن أوضحنا بعض التحفظات العلمية على نوعية البيانات والمتغيرات التي اعتمد عليها تقرير دافوس، وعلى طريقة حساب دليل الاستدامة البيئية (انظر مقالنا ''العمل البيئي العربي: خطوة الى الأمام، خطوتان الى الوراء''، مجلة ''البيئة والتنمية''، العدد 52/53 سنة 2002). وتقبل الفريق المعد لتقرير دافوس هذه الملاحظات بصدر رحب، ووعد بدراستها والأخذ بما يمكن منها في إعداد التقارير المستقلبية. وأكد على أن عملية تقدير دليل الاستدامة البيئية هي عملية متواصلة ومتطورة بحسب المتغيرات العالمية والاقليمية ووفرة البيانات وحداثتها.
وفي شباط (فبراير) الماضي صدر تقرير الإستدامة البيئية لسنة 2005، بعد اضافة بعض المتغيرات وحذف البعض وتعديل البعض. فبلغ عدد المؤشرات المستخدمة في حساب دليل الاستدامة البيئية 21 مؤشراً تتضمن 76 متغيراً، وهي ليست بالزيادة الكبيرة عن تلك التي استخدمت عام 2002. ولكن التعديلات التي حدثت أدت الى تحسن ملموس. فصعدت بعض الدول على سلم الدليل، بينما هبطت دول أخرى. ولكن بعض الدول حافظت على مواقعها.
معظم الدول التي احتلت المراكز العشرة الأولى عام 2002 لم تتغير درجاتها كثيراً في 2005 (الجدول 1). وهذا معناه أن لديها القدرات والعزيمة السياسية على المضي بثبات في طريق حماية بيئتها وصون مواردها الطبيعية، وبمعنى آخر استدامة العمل البيئي. أما الدول العربية فقد جاءتمتأخرة، مرة أخرى، في تقرير ،2005 على رغم صعود قلة منها بضع درجات (مثل تونس وعُمان والكويت والامارات)، وهبوط الدول الأخرى (الجدول 2). وهذا معناه أن قدرات الدول العربية على حماية البيئة وصون الموارد الطبيعية ما زالت محدودة للغاية ومتذبذبة، وفي حالات كثيرة متراجعة (خطوة الى الأمام خطوتان الى الوراء، كما ذكرنا عام 2002).
مكونات دليل الاستدامة البيئية
هناك خمس مكونات رئيسية تدخل في حساب دليل الاستدامة البيئية، يتكون كل منها من عدد من المؤشرات، وكل مؤشر يتكون من عدد من المتغيرات. وفي ما يأتي بيان هذه المكونات والمؤشرات:
1. النظم البيئية: نوعية الهواء، التنوع البيولوجي، النظم الأرضية، كمية المياه، نوعية المياه.
2. خفض الضغوط البيئية: خفض تلوث الهواء، خفض الضغط على النظم الايكولوجية، خفض النمو السكاني، خفض ضغوط النفايات والاستهلاك، خفض الضغط على المياه، ادارة الموارد الطبيعية.
3. خفض المخاطر التى يتعرض لها الانسان: الصحة البيئية، تأمين حاجات الانسان الاساسية، خفض تعرض الانسان للكوارث الطبيعية.
4. القدرة الاجتماعية والمؤسسية: الحوكمة (الادارة) البيئية، الكفاءة البيئية، مشاركة القطاع الخاص، العلم والتكنولوجيا.
5. الريادة الدولية: المشاركة في الجهود الدولية، خفض انبعاثات غازات الدفيئة، خفض الضغوط البيئية عبر الحدود.
وكما يقولون ''الصورة أكثر تعبيراً من ألف كلمة'' ، فالجداول 3 ـ 7 توضح الموقف العام للدول العربية بالنسبة الى المتوسط العالمي (لـ 146 دولة). وهو موقف متدنٍ، بصورة عامة، يعكس ترتيب الدول العربية في مؤخرة سلم الاستدامة البيئية. ولكن يجب توخي الحذر في قراءة هذه الجداول ومقارنة الدول العربية بعضها بالبعض الآخر. فعلى سبيل المثال، تم تقدير مؤشر الكفاءة البيئية الوارد في الجدول (6) من متغيرين اثنين فقط، هما كفاءة استخدام الطاقة ونسبة الطاقة المتجددة المستخدمة. وبذلك فان مؤشر الكفاءة البيئية لا يعبر الا عن استخدام الطاقة، وهو بذلك غير دقيق علمياً، اذ ان الكفاءة البيئية هي محصلة متغيرات كثيرة مثل نوعية الهواء، ونوعية المياه، وحالة الأرض، وحالة التنوع البيولوجي، ومعدل توليد النفايات، وغير ذلك. واذا نظرنا الى الجدول (6) نجد أن السودان قد تم ترتيبه في وضع أفضل من المتوسط العالمي، ومن أي دولة عربية أخرى. وهذا غير دقيق من الناحية العلمية، فمعدل استخدام الفرد للطاقة في السودان هو من أقل المعدلات في العالم. فكيف يساوي تقرير دافوس بين انخفاض أو عدم استخدام الطاقة وبين الكفاءة البيئية؟ كذلك اذا نظرنا الى الجدول (7) نجد أن ترتيب السودان (واليمن والمغرب) أفضل من ترتيب بقية الدول العربية في خفض انبعاثات غازات الدفيئة. والمعروف أن هذه الانبعاثات هي أساساً نتيجة استخدام الوقود الاحفوري، وهذه الدول هي أقل الدول العربية استخداماً لهذا النوع من الوقود. من ناحية أخرى، يعتبر مؤشر صحة البيئة الذي تم تقديره من ثلاثة متغيرات، هي معدل الوفيات من الأمراض المعوية المعدية، معدل وفيات الأطفال من الأمراض التنفسية ومعدل وفيات الأطفال دون الخامسة، أقرب الى الواقع في الدول العربية.
على أي حال، تبقى الصورة العامة لتراجع العمل البيئي في الدول العربية كما هي، وحتى في المستقبل القريب، ما لم تبذل جهود مكثفة لتغيير الوضع. وهذا يتطلب من الدول العربية أن تنظر بجدية الى قضايا البيئة والموارد الطبيعية، وأن تضع أولويات تترجم الى خطط عملية واقعية يتم الالتزام بتنفيذها، بدلاً من اصدار البيانات والتقارير والمبادرات التي لا طائل منها.