التمويل الدولي أصبح عصب المشاريع البيئية في الدول النامية. وفي حين يبلغ حجم البرامج الدولية أضعاف ميزانية وزارة البيئة نفسها، فأموالها تصرف خارج اشراف هيئات الرقابة الوطنية. فمن يحدد الأولويات، وهل تساعد هذه البرامج في بناء القدرات الذاتية للوزارة؟
في مناسبة يوم البيئة العالمي نظمت مجلة "البيئة والتنمية"، بالتعاون مع جمعية متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت، طاولة مستديرة تحت عنوان "البيئة بين الأولويات الوطنية والبرامج الدولية"، في مبنى "وست هول" في الجامعة. تحاور في الندوة وزير البيئة اللبناني الدكتور طارق متري ووزير البيئة الأردني المهندس خالد الايراني والقائم بأعمال الممثل والمدير الاقليمي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة الدكتور حبيب الهبر، وأدارها رئيس تحرير مجلة "البيئة والتنمية" المهندس نجيب صعب. وشارك في النقاش رئيس بلدية بيروت عبد المنعم العريس ومدير عام وزارة البيئة برج هتجيان وعمداء وأساتذة جامعيون وناشطون في جمعيات بيئية.
وفي كلمة ترحيبية، أكد رئيس جمعية متخرجي الجامعة الأميركية فواز المرعبي أهمية دراسة الأثر البيئي للمشاريع الكبرى، ورأى أن على الهيئات الدولية أن تشترط لمنح المساعدات للمشاريع الانمائية "الالتزام بأن تكون التنمية المتوازنة بيئياً البديل للممارسة القائمة على الانماء بأي ثمن".
البرامج الدولية "وصفات جاهزة"
المحور الأول كان تحت عنوان "التعاون البيئي الدولي في عصر العولمة". وبعدما شرح نجيب صعب كيف أن الحركة البيئية قد تكون من أبرز مظاهر العولمة، قال ان التعاون الدولي "حقق نجاحات لم تكن ممكنة لو اكتفينا بالعمل المنفرد على المستوى الوطني، أو حتى على الصعيد الاقليمي"، منوّهاً بدور التمويل الدولي في اطلاق مشاريع وبرامج ناجحة، ساهمت في حالات كثيرة في وضع قضايا البيئة على جدول الأعمال الوطني، وطورت قدرات المؤسسات الوطنية ودعمت هيئات المجتمع الأهلي. الا أنه رأى أن البرامج الدولية واجهت اخفاقات، معتبراً أنها كانت في حالات كثيرة "وصفات جاهزة فاق حجم الورق من تقاريرها الحجم الفعلي لانجازاتها".
الوزير طارق متري اعتبر أن الحديث عن العولمة غالباً ما يكون حديثاً عن المجالين الاقتصادي والمالي، لأنه بدأ عندما اجتاحت الأسواق المالية العالم. ورأى أن مأزق الحكومات الوطنية اليوم يكمن في أنها "أصغر من قدرتها على حل المشاكل الكبيرة، لأن العمل البيئي في لبنان مثلاً يحتاج الى التعاون مع الدول العربية والمتوسطية، وأكبر من قدرتها على حل المشاكل الصغيرة، مثل مشاكل الصرف الصحي والنفايات على المستوى المحلي، التي هي من مسؤولية البلديات".
واعترض رئيس بلدية بيروت على تحميل البلديات مسؤولية تلك المشاكل، معتبراً أنها عاجزة أحياناً، بسبب العراقيل الادارية والمالية، عن توظيف عامل يجمع النفايات. وقال: "عدد البلديات كبير في لبنان (850 بلدية)، وقدراتها المالية والادارية ضئيلة"، مطالباً بدمج بعض البلديات مع بعضها الآخر، وبتعزيز دورها لتتمكن من حل تلك المشاكل.
حبيب الهبر وافق متري الرأي واعتبر أنه لا يجوز حصر حل المشاكل البيئية على الصعيد المحلي، بل يجب خلق تعاون على الصعيدين الاقليمي والعالمي. وقال: "صدرت نحو 700 اتفاقية دولية بيئية، منها 41 اتفاقية متعددة الأطراف، لربط الدول ببعضها البعض ولتبادل المعلومات في ما بينها لمواجهة المشاكل البيئية التي تضرب العالم. وبروتوكول مونتريال المتعلق بالأوزون مثال جيد على ذلك".
جدول الأعمال الوطني
في المحور الثاني، حاول المنتدون الاجابة عن: من يضع الأولويات البيئية الوطنية، وهل من تصادم بين المحلي والعالمي، وهل يمكن تسخير الاهتمام الدولي لخدمة المتطلبات المحلية؟
الوزير الاردني رأى أن الاولويات يجب أن تكون وطنية، معتبراً أن "أحد أخطاء الدول العربية أنها لا تحدد أولوياتها لتناقشها في المؤتمرات الدولية، وعندما تصدر القرارات تعتبرها مفروضة عليها دوليا، ويبدأ الحديث عن المؤامرات الوهمية. وقال انه في غالب الأحيان تسعى الدول خلف الممول وفق شروطه، ولا تفرض أجندتها الوطنية لطلب التمويل على ضوئها. وأشار الى أنه "في حالات كثيرة لا توجد خطة وطنية أصلاً". ورأى الايراني أن الأولوية الوطنية لا تضعها الحكومة وحدها بل يجب أن يحددها برنامج وطني تشاركي بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني. ولفت الى أن الأردن في صدد اعداد الخطة الوطنية البيئية، على أن تحدد الأولويات وتبين المسؤوليات لكل قطاع. وحذر من أن سبب فشل كثير من البرامج ذات التمويل الدولي هو عدم وجود خطة للاستمرار الذاتي بعد انتهاء التمويل. وأشار الى أن المحميات الأردنية التي حصلت على تمويل من المرفق البيئي العالمي ( (GEF، نظمت ورشة وطنية سميت "الحياة ما بعد GEF"، وأمنت الاستدامة بعد انتهاء التمويل الدولي، خصوصاً من خلال نشاطات منتجة في المحميات ومحيطها، باشراك المجتمع المحلي.
ورأى الوزير متري أنه يوجد ثلاثة توجهات في تقييم الأولويات البيئية: أولويات الجهات المانحة التي يكون لبعضها اعتباراتها السياسية، وأولويات الحكومات التي تبنى على دراسات ميدانية وأرقام حول كلفة التدهور البيئي، والأولويات الموجودة في أذهان الناس والصحافة. وقال: "لدينا مهمة توفيقية حقيقية بين هذه الجهات المختلفة، وذلك لا يتم الا بادخال أكبر عدد ممكن من الشركاء في الحوار، شرط أن يكون متكافئاً، لتصحيح ميزان القوى". وأعطى مثالاً أن معظم الشكاوى التي تصل الوزارة من الناس تتعلق بالمقالع والكسارات، بينما تعتبر التقارير البيئية للوزارة أن مشاكل مثل تلوث المياه والهواء أكثر أهمية.
ومن وجهة نظر المانحين، قال الهبر: "كنا في السابق نقدم مشاريع جاهزة للدول، لكن برنامج الأمم المتحدة للبيئة وغيره من المنظمات الدولية تطلب الآن من الدول أن تضع أولوياتها بنفسها. لذا على وزارة البيئة الاشتراك مع الوزارات الأخرى ومع المجتمع المدني لتحديد أولوياتها الوطنية". ولفت الى أن مشاكل لبنان البيئية لا تقتصر عليه بل تتعداه الى الدول المجاورة، فمثلاً ليس بامكان الحكومة أو البلدية الحفاظ على الثروة البحرية بلا مشاركة اقليمية ودولية، بل يكون ذلك وفق خطة تعاون مع الدول المجاورة للحصول بموجبها على الدعم الدولي. ودعا هبر المنظمات المانحة إلى مساعدة وزارات البيئة على وضع خطط وطنية تحدد الأولويات قبل البدء بتوزيع الهبات والمشاريع بالمفرّق.
الوزير الأردني عقب على ذلك بالقول: "المشكلة بعد اعداد الاستراتيجية الوطنية هي في آلية التنفيذ والمراجعة. وزارة البيئة يجب أن تنسق الأدوار بين المعنيين في الموضوع، سواء أكانوا جهات حكومية أو قطاعات صناعية أو مؤسسات مجتمع مدني، ومساءلتها في مؤتمر سنوي عما قدمته لهذه الخطة ومخططاتها المستقبلية. فالمحاسبة تكون على التقدم الفعلي في تحقيق برنامج محدد وليس على النيّات".
الأجور والاصلاح الاداري
المحور الثالث بحث في مسألة البرامج الدولية داخل الوزارات، وتساءل عما اذا كانت هذه البرامج تبنى القدرات الذاتية في المؤسسات الوطنية أم تخلق ادارة بديلة موقتة. وعلّق صعب على ذلك بأن البرامج الدولية داخل الوزارات توظف مديرين محليين بأجور تصل الى أضعاف مستويات زملائهم من موظفي الوزارة، مما يخلق تفاوتاً كبيراً. وتساءل عن مدى استفادة الوزارة من خبرات المقاولين الخارجيين في المشاريع، وهل يتم بالفعل تدريب كادر محلي تابع للوزارة، أم أن ما ينتج عن هذه الممارسة هو خلق فئة من موظفي البرامج الدولية المحليين، يتنقلون من مشروع الى آخر بلا أثر مستمر في الوزارة المعنية.
الوزير متري لفت الى محاولات الوزارة تجسير العلاقة بين العاملين في ملاك الوزارة وفي البرامج ذات التمويل الدولي المنفذة في نطاق عمل الوزارة، "لأن تفاوت الأجور يضعف الانتاج ويغيّب الحوافز للعمل النوعي الجيد". وأشار على خط آخر الى ضرورة الافادة من المشاريع السابقة لتفادي هدر الطاقات والأموال.
واعتبر حبيب الهبر أن تفاوت الأجور مسألة تحتاج الى اصلاح اداري. ورأى أن المشاريع الممولة دولياً، التي تنفذها وزارات البيئة في العالم العربي، تعزز قدرات تلك الوزارات، لكن المشكلة تكمن في عدم القدرة على تأمين الممول المحلي البديل أو المؤسسة المحلية التي تأخذ على عاتقها استدامة المشاريع. وهذا ما يؤدي الى خسارة فوائدها بعد انتهاء التمويل الدولي.
وتحدث الايراني عن تجارب في الأردن، حيث يتم تحديد أجور المدراء المحليين لبرامج ذات تمويل دولي بما يتناسب مع سلم الأجور في البلد، وذلك افساحاً في المجال لاستمرارهم في العمل كموظفين في الوزارة بعد انتهاء التمويل الدولي. وفي حال ضرورة وجود خبراء من هيئات دولية يعملون في الوزارات ببدلات مرتفعة، للحاجة الى خبراتهم الخاصة، شدد الايراني على وجوب تعيين موظف محلي رديف ليتم تدريبه على متابعة العمل. ونبه الى أن هذا الموظف الرديف يجب أن يكون صاحب اختصاص مناسب، لا مجرد مساعد اداري للخبير الدولي، كما يحصل في حالات كثيرة. وأعطى مثالاً على أن ما يسمى "ضابط الارتكاز" المحلي لبرنامج معالجة نفايات يجب أن يكون مختصاً في هذا الموضوع ويتابع مسؤوليته في الوزارة في موضوع النفايات بعد انتهاء التمويل، لضمان الاستفادة من الخبرة المكتسبة.
التضارب والتكرار
المحور الأخير كان تحت عنوان: "البرامج الدولية والمجتمع الأهلي: من ينسق، من يراقب، من يمنع التكرار؟" فأشار صعب الى أن "تصميم برامج المساعدات غالباً ما يتم على قياس بعض الوسطاء والمنتفعين، ولا يبقى أثر من نتائجها لدى المؤسسات والمجموعات التي يفترض أنها وجدت لخدمتها". وفي هذا السياق قال الوزير متري: "لا أحد ينازع الجهات المانحة في حقها في اختيار الجمعية الأهلية التي تود أن تمولها، لكن المصلحة العامة تقتضي أن تكون الحكومة شريكاً في الحوار حتى لا يقع التضارب في المشاريع ولتصرف الأموال في المكان المناسب". وأعطى في هذا السياق مثال الهدر في دراسة تلوث نهر الليطاني، "الذي قدمت وزارة البيئة دراسة له لم يكن الظرف مؤاتياً لترجمتها بقرار سياسي، وبعد فترة قصيرة قدمت جمعية أهلية دراسة جديدة، والاثنتان بتمويل خارجي، ولم تقدم الأخيرة أي جديد على الأولى". وعلّق أحد مسؤولي المجتمع الأهلي أن الدراستين أجريتا بمشاركة جمعيات أهلية، وبالتعاون مع وزارتين مختلفتين، محملاً وزارة البيئة مسؤولية عدم تعميم الدراسة الأولى ووضع آلية لتنفيذها، مما أفسح في المجال للتكرار.
ولفت الوزير الأردني الى أن بلاده استدركت هذا الأمر، فحصرت مسألة طلب التمويل بوزارة التخطيط، حتى لا يحصل تضارب في المشاريع. وأكد على أهمية وجود خطة وطنية للبيئة، "وعندها يصبح العمل مؤسسياً لا يقوم على أشخاص ومجموعات متفرقة".
مدير عام وزارة البيئة برج هتجيان علّق في مداخلة مستفيضة: "لم أفهم ثلثي الحديث الذي دار حتى الآن، فماذا فهم الجمهور؟" وتابع منوهاً ببعض "المبادرات الناجحة التي تولتها الوزارة بالتعاون مع هيئات محلية ودولية"، مؤكّداً على "عدم وجود مشكلة في تفاوت المعاشات بين موظفي الوزارة وأولئك التابعين لبرامج دولية داخل الوزارة نفسها"، لأن موظفي الملاك حسب قوله "يحصلون على عقود دائمة ويعملون عن رغبة في خدمة البلد". ورد أحد الحاضرين بأن موظفي البرامج ذات التمويل الدولي داخل الوزارة لبنانيون أيضاً وفي معظم الأحيان يتساوون مع موظفي ملاك الوزارة في المؤهلات. وأشار أحد المشاركين الى أنه "على الرغم من كل النوايا الحسنة، فقد انخفض ترتيب لبنان على مؤشر الاستدامة البيئية من 91 سنة 2002 الى 129 سنة 2005، من بين 146 دولة، أي بتراجع 38 نقطة"، مكرراً أرقاماً أوردها الوزير متري قبل يومين نقلاً عن التقرير البيئي لمنتدى دافوس.
وطالب الدكتور فريد شعبان بانشاء شبكة للرصد البيئي، حتى لا تبقى مصادر المعلومات محصورة في برامج متفرقة لا رابط بينها. وتعليقاً على المطالبة بالاتفاق على بعض المشاريع العملية وعدم الاكتفاء بالنظريات، اقترح صعب على جمعية متخرجي الجامعة الأميركية البدء بالعمل على استخدام عشرات المحطات الثابتة لرصد نوعية الهواء، "القابعة في مستودعات كلية الهندسة في الجامعة منذ سنوات، بانتظار ميزانية تشغيلية. فلماذا لا يتم تركيبها فوراً ضمن برنامج وطني لرصد تلوث الهواء بالتعاون بين الجامعة ووزارة البيئة والمجلس الوطني للبحوث العلمية؟" وأشار رئيس بلدية بيروت في هذا الصدد الى أن البلدية أنشأت محطة ثابتة لرصد نوعية الهواء في حرج بيروت، وستبدأ بإعلان النتائج قريباً.
وأعيد التذكير بالمؤسسة الوطنية للبيئة، التي وعد البيان الوزاري لحكومة سنة 2000 في لبنان بانشائها، لتكون مسؤولة عن الدراسات والبحث العلمي واقتراح السياسات وتنسيق البرامج وفق خطة وطنية شاملة.