ترصع بساتين الزيتون هضاب الاندلس على مد النظر. ومنذ قرون، تمد هذه البساتين المطاعم والمتاجر بالزيتون وزيت الزيتون اللذين يشكلان العنصرين الاساسيين في المطبخ الاسباني، وينسب اليهما طول أعمار مستهلكي الغذاء المتوسطي. ولكن خلال العقدين الماضيين، وجد مزارعو الزيتون سوقاً جديدة لمحصولهم هي... قطاع الكهرباء!
اقليم الاندلس الذي يمتد على الطرف الجنوبي لاسبانيا يحوي أول محطة في العالم لانتاج الكهرباء من الزيتون. ففي 1995، أصبحت محطة الكهرباء في بلدة بالينسيانا رائدة استعمال الزيتون كمصدر لطاقة متجددة. فهي تحول مخلفات الزيتون الى كتلة حيوية (biomass)، أي وقود يتولد من مخلفات حيوانية ونباتية كالروث وبقايا المحاصيل الزراعية). ومن ثم تحرق هذه الكتلة الحيوية لتولد كهرباء وحرارة. وتنتج المحطة حالياً كهرباء خضراء تكفي 27 ألف منزل، وقد أنشئت منذئذ أربع محطات أخرى في الاقليم.
ربح أخضر
خوسيه سانتاماريا واحد من منتجي الطاقة الخضراء الرياديين. تزاول عائلته منذ أجيال زراعة الزيتون وانتاجه حول بلدة لوسينا القريبة من مدينة اشبيلية. لكن منذ أربع سنوات ركب موجة الكتلة الحيوية. يقول: "يبدو أنها الحل المثالي، فقد عانينا دائماً من مشكلة تصريف مخلفات عصر الزيتون التي تلوث التربة والنظام المائي الجوفي. وباستعمالها لانتاج كهرباء خضراء، حوّلنا مشكلة بيئية الى حل بيئي".
بدأ خوسيه انتاج الكهرباء الى جانب الزيت في العام 2000. وباشر العمل على نطاق صغير، فأنتج طاقة تكفي 3500 منزل في لوسينا. لكنه يوسع نشاطه حالياً لاستعمال مخلفات مزارع زيتون مجاورة أيضاً. ويستكمل بناء محطة مشتركة لانتاج الزيت والكهرباء وسط بساتين الزيتون التي تمتلكها العائلة. وقد باتت كخلية نحل تعج بالنشاط. وتتوالى الشاحنات على تفريغ الزيتون في مستوعب تخزين غائر، ومن ثم يُعصر الزيتون ويُحول الى زيت. وفي حين آخر، يتم تجفيف مخلفات العصر في سخانات دوّارة ضخمة لانتاج كتلة حيوية.
ويأمل خويبه توليد كهرباء كافية لاستخدامات جميع المنازل في لوسينا التي يسكنها نحو 50 ألف نسمة.
خوسيه سانتاماريا، وذلك الشاب الثلاثيني الرشيق، يصف نفسه بأنه رجل أعمال بيئي، ويضيف ضاحكاً: "لكن الطابع البيئي مازال يطغى على الجانب العملي فنحن بالكاد نسد نفقاتنا، لأن العلاوات التي تدفعها شركات الكهرباء عن كل كيلوواط من الكتلة الحيوية ليست سخية".
غير أن لديه سوقاً جاهزة. فكل الكهرباء التي ينتجها تشتريها شركات الكهرباء المحلية، وهناك سوق لزيادة الانتاج. وبعدما بدأ صنع الكتلة الحيوية، فهو لا يريد التوقف. ويعتقد أن كثيراً من منتجي الزيتون في الاقليم سيفعلون الأمر ذاته لو كانت الحوافز المالية أكبر. وهذا سيعود على البيئة بفوائد أكبر من مجرد تصريف مخلفات الزيتون الملوّنة، فالكتلة الحيوية وقود متجدد ومحايد في ما يتعلق باطلاق ثاني اوكسيد الكربون، مما يجعلها تكنولوجيا قيمة في الجهود المبذولة لخفض انبعاثاته والحد من الاحترار العالمي وتغير المناخ.
ضرورة الدعم الحكومي
يقول هيكي ويلستيد، خبير الطاقة وتغير المناخ في مكتب الصندوق العالمي لحماية الطبيعة (WWF) في اسبانيا: "الميزة الكبرى للكتلة الحيوية على غيرها من مصادر الطاقة المتجددة، كالرياح والطاقة الشمسية، هي امكانية تخزينها واستعمالها عند الحاجة، وهذا يعني توفر امدادات كهربائية مستمرة وغير متقلبة". ويعتقد كثيرون أن الكتلة الحيوية، بعد طاقة الرياح، هي مصدر الطاقة المتجدد الاكبر الذي يمكن استغلاله على نطاق واسع.
وقد أفاد تقرير حديث صادر عن الصندوق العالمي لحماية الطبيعة والجمعية الاوروبية للكتلة الحيوية أن 15 في المئة من الكهرباء في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، تكفي لتزويد 100 مليون منزل، يمكن أن تأتي من الكتلة الحيوية بحلول سنة 2020. وبالمقارنة مع محطات الطاقة التقليدية، هذا يمكن أن يخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بنحو 1000 مليون طن كل سنة، وهي كمية تعادل مجمل الانبعاثات السنوية في كندا وايطاليا مجتمعتين.
وبما أن معظم البلدان الصناعية تكافح للوفاء بالتزاماتها لخفض انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون، فان هذه الارقام يجب ان تكون حافزاً هائلاً لترويج الكتلة الحيوية اضافة الى مصادر الطاقة المتجددة الاخرى. فاسبانيا، مثلاً، وافقت على حدّ الانبعاثات بحلول سنة 2012. بزيادة 15 في المئة عن مستويات عام 1990 بموجب اتفاقية كيوتو. لكن انبعاثاتها ارتفعت في الواقع بنسبة 40 في المئة منذ 1990.
غير أن صناعة الكتلة الحيوية مازالت متخلفة في معظم البلدان الصناعية. فهي تؤمن 3 في المئة فقط من اجمالي استهلاك الكهرباء في اسبانيا، بينما الرقم في معظم البلدان الصناعية. فهي تؤمن 3 في المئة فقط من اجمالي استهلاك الكهرباء في اسبانيا، بينما الرقم في معظم البلدان الصناعية هو 1 في المئة فقط. ويعود سبب ذلك أساساً الى غياب الدعم الحكومي. ففي حين يحصل منتجو الكهرباء من الكتلة الحيوية في اسبانيا، مثلاً، على علاوة فوق السعر المعتاد لكهرباء، فانها تقل كثيراً عن علاوة طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وهذا يجعل الكتلة الحيوية غير جذابة لكثير من المستثمرين. وبالنسبة الى منتجي الكتلة الحيوية من الزيتون، فان علاوات أعلى قد تكون ضرورية للحفاظ على استمرارية عملهم في حال أصبحت لمخلفات الزيتون، التي تقدم حالياً من دون مقابل، قيمة سوقية.
هذا لا يعني أن صناعة لكتلة الحيوية لا تحظى بمؤيدين. فمدير وكالة الطاقة في إشبيلية إنريكه بيلوسو بيرس عازم على ترويجها، اضافة الى مصادر متجددة أخرى كطاقة الرياح والطاقة الشمسية. لكنه يعترف بأن قانون الطاقة المتجددة المعمول به في اسبانيا غير كاف لتوسيع استعمال الكتلة الحيوية، ويقول: "نريد قانوناً جديداً أكثر جاذبية من الناحية المالية، يوفر للمنتجين اعانات دعم أعلى، والا فانني أخشى ألا تبنى محطات جديدة للكتلة الحيوية في الاندلس واسبانيا عموماً".
ويوافق ويلستيد على ذلك، مضيفاً: "للكتلة الحيوية دور هائل يجب ان تؤديه في توفير طاقة نظيفة مستدامة للمستقبل. فالتكنولوجيا موجودة، والعوائق المربكة هي سياسية وتجارية".
على رغم المشاكل، سجلت الكتلة الحيوية بداية، رائعة في الاندلس الذي يحتل مركزاً ريادياً عالمياً في تكنولوجيا طاقة الرياح والطاقة الشمسية. فمحطات الطاقة التي تستخدم مخلفات الزيتون في الاندلس تنتج كهرباء كافية لنحو 130 ألف منزل، في حين أن الكتلة الحيوية ككل تزود 5 في المئة من اجمالي الاستهلاك الطاقوي في الاقليم.
يقول خوسيه سانتماريا: "طبعاً، بدأنا هذا المشروع لتحقيق ربح، لكننا نعلم أننا نحل مشكلة خطيرة في الوقت ذلته. ويسعدنا ان نكسب مالاً ونساعد البيئة في آن".
والمزارعون، في هذه البقعة من العالم على الاقل، يقومون بقسطهم من الواجب.
كلير دول رئيسة قسم الصحافة في الصندوق العالمي لحماية الطبيعة (WWF).
كادر
ما هي طاقة الكتلة الحيوية؟
يطلق مصطلح "الكتلة الحيوية" على المنتجات النباتية والحيوانية التي يمكن استخدامها لانتاج الطاقة، مثل المحاصيل الطاقوية (كأغصان الشجيرات السريعة النمو) والروث والنشارة والنفايات العضوية الناتجة عن العمليات الصناعية كانتاج السكر وزيت الزيتون. ومن حيث المبدأ، فان حرق الكتلة الحيوية كوقود يطلق في الغلاف الجوي كمية من ثاني اوكسيد الكربون هي ذاتها التي يكون الكائن الحي قد استهلكها لينمو، مما يجعلها "وقوداً محايداً" من حيث إطلاق ثاني اوكسيد الكربون.
ينتج أكثر من نصف كهرباء العالم من خلال حرق الفحم والنفط والغاز. وهذا يطلق كل سنة ملايين الأطنان من ثاني أوكسيد الكربون، الغاز الرئيسي المسؤول عن الاحترار العالمي وتغير المناخ. وقطاع الكهرباء هو أكبر مصدر للانبعاثات، اذ ينتج 37 في المئةمن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون العالمية. واستعمال الوقود الأحفوري في البلدان الصناعية الغربية ككل مسؤول عن 97 في المئة من مجمل الانبعاثات.