صنع الابداع العلمي اختراعات كثيرة لاختصار الوقت والجهد في عمليات الاداء والانتاج ولتسهيل الانتقال في المدن وبين المناطق. هذه الحضارة الآلية أدّت الى اختصار حركات الجسد وأثرت في طبيعة وظائفه وفي البيئة التي يعيش فيها. فقد أصبح الانسان مضطراً الى الجلوس اليومي الطويل في السيارة والمكتب، وحتى في المنزل أمام التلفزيون أو مع الكومبيوتر والانترنت. وزاد الحالة سوءاً الافراط في استعمال الهاتف حتى لأقرب المسافات ولأتفه الاسباب. ولعل النارجيلة، في عاداتنا الموروثة، مثال مشابه لتطبيع الجسم على قلة الحركة بادمان تدخينها ساعات طويلة.
مع ممارسة هذه العادات اليومية الشائعة بدأ الانسان يشعر بمتاعب جسدية ونفسية ضاغطة، لا سيّما في المدينة، تؤثر على أدائه الفكري والعملي وترهق سلامه الداخلي. يحاول كثيرون تخفيف هذه المتاعب أو التخلص منها بالادوية الطبية، ويلجأ آخرون الى العلاج الرياضي لتعويض ما يخسره الجسم من فوائد الحركة الطبيعية، فازدهرت رياضة المشي والسباحة والتمارين. لكن الرياضة الاكثر متعة بحق هي ركوب الدراجة الهوائية.
إختراع دافنشي!
ظهرت فكرة الدراجة للمرة الاولى في تصميم هندسي رسمه الفنان الايطالي الشهير ليوناردو دافنشي عام 3941 وكان محفوظاً في احدى مكتبات مدينة ميلانو. وتجسّدت الفكرة آلة بسيطة في المانيا أوّلاً عام 1817. وبعد تجارب كثيرة وتحسينات فنية في الشكل والتشغيل، بلغت صورتها النهائية عام 1880 في بريطانيا.
في هذا العالم المليء أزمات اقتصادية ومشاكل طاقة وتلوثاً صناعيّاً وازدحاماً وضجيجاً وأمراضاً، يجدر أن تكون الدراجة وسيلة النقل البديلة لتخفيف الجحيم الذي تشكو منه المدن.
هذه "السيارة الخفيفة" كانت صديقة الانسان والبيئة منذ انتشار استعمالها في المجتمعات الاوروبية، الصناعية والريفية، للذهاب الى الاعمال أو القيام بالزيارات والتنقل من قرية الى أخرى. وبُعيد اختراعها، نشأت فكرة إدخالها في المباريات الرياضية. فكان السباق الاول في باريس يوم 13 أيار (مايو) 1868. ثم تأسّست أندية عديدة للاهتمام بتنظيم السباقات، وتطوّرت اللعبة بانشاء الميادين المغلقة الخاصة بها في جميع أنحاء العالم. ولسباق الدراجات اليوم أهمية عالمية في الحركة السياحية والاقتصادية.
طرق خاصة
اقتضى ازدهار استعمال الدراجة الهوائية وضع قوانين ضابطة. فكان على البلديات والوزارات المسؤولة عن المواصلات في "بلدان الدراجات" تأمين مرور الدّراجين وسلامتهم وإرشادهم. وهذا يشمل إنشاء شبكة طرق خاصة بالدراجات، وإنشاء طرق جانبية لها موازية لطرق السيارات حيث تدعو الحاجة، ووضع إشارات لتنبيه السائقين والدرّاجين تفادياً للحوادث، وتوزيع منشورات وخرائط لإرشاد سائح الدراجة الى المواقع السياحية ومراكز الخدمات.
حقّقت الدراجة الهوائية نجاحاً في تنمية المناطق بخلق إمكانات وحوافز في البيئة والسياحة والرياضة والصحة والتجارة والصناعة. فأنعشت مجتمعات كثيرة حول العالم بما وفرته من فرص عمل عديدة لسكان المدن والارياف، من صناعة وتجارة بالتصدير والاستيراد والبيع والتأجير والتصليح وتأمين اللوازم وقطع الغيار، وإنشاء الطرق والاستراحات والمطاعم والمواقف والمحطات السياحية.
هذه الدورة الاقتصادية الكبرى، أساسها دورة العجلتين الصغيرتين اللتين تسيران بلا وقود!
في السياحة البيئية
سهولة حركة العجلتين، وخفة الوزن والحجم، تسمحان للدرّاج بالتوغل في الطبيعة والقرى والمدن، وفي المسالك الوعرة والشوارع الضيقة، والوصول مباشرة الى شاطىء البحر أو ضفة النهر.
أما في المحميات الطبيعية، فالدراجة ممنوعة، الاّ اذا تمّ تأهيل المحمية بممّرات خاصة بالدراجات تسمح بالتجوّل عليها من دون أذى، مما يتيح اجتياز مسافات أطول واستطلاع المزيد من خصائص الموقع في وقت أقل.
ومن مزايا الدراجة الهوائية في السياحة البيئية أنها وسيلة نقل نظيفة وعملية في حمل الاغراض، مثل آلات التصوير والناظور والخيمة ومحفظة اللوازم الشخصية الضرورية في الرحلات المناطقية. وهي ملائمة أيضاً في الجولات البعيدة من دولة الى أخرى، ولهذا النوع من السياحة درّاجات مميزة تلبي جميع ظروف الرحلة في مسالكها الجبلية والسهلية.
الدراجة في لبنان
لم يتأخر وصول الدراجة الهوائية الى المدن اللبنانية، ولا سيّما الساحلية. فبدأ استيرادها بعد الحرب العالمية الاولى، وراجت منذ العشرينات كوسيلة نقل ذات شأن في الحياة اليومية، للعمال والشرطة وصغار الموظفين والباعة المتجوّلين والموزعين. وقد ظلّت الدراجة الصفراء الى الامس القريب «سيارة» ساعي البريد يعلق عليها جعبته الجلدية وينطلق لتوزيع الرسائل. وقامت في طرابلس وبيروت وصيدا مصالح تجارية كبرى في عالم الدراجة الهوائية، استيراداً وخدمات.
أما في الرياضة، فقد عرف لبنان الدراجات في الاندية والسباقات التي بدأت عام 1934، وكان لها أبطالها الذين ذاع صيتهم في زمانهم. في العام 1952 تأسّس الاتحاد اللبناني للدراجات من ثمانية أندية. فانتسب الى اللجنة الاولمبية اللبنانية وأصبح عضواً في الاتحاد الدولي عام 1954، وكان من الاعضاء المؤسسين للاتحاد العربي للدراجات عام 1975. وكانت المدينة الرياضية في بيروت، قبل أن يدمرها الطيران الاسرائيلي عام 1982، تضم ميداناً ممتازاً لسباق الدراجات الهوائية. وقد أقيمت في لبنان سباقات دولية منذ 1950، توقفت مع بدء الاحداث الاهلية عام 1975، ولم تنهض مع نهضة لبنان وإعادة إعماره. وجاء تنفيذ شبكات الطرق الجديدة في بيروت والمناطق ضعيف الاهتمام بحاجات الدراجة الهوائية ونظام سيرها. لذلك يطالب الهواة والمحترفون الهيئات المسؤولة، من وزارة الاشغال العامة والنقل الى مجلس الانماء والاعمار والتنظيم المدني وبلدية العاصمة وبلديات المدن والقرى في جميع المحافظات، بتأمين تسهيلات ركوب الدراجة الهوائية وتشجيع اقتنائها. ويشمل ذلك، أولاً، التفكير بالدراجة عند تخطيط الطرق وتنفيذها وتأهيلها. ثانياً، استدراك الاخطاء والنواقص في الطرق التي تمّ تنفيذها أو ما زالت في مرحلة التنفيذ. ثالثاً، رسم خطوط وتحديد مقاطع ووضع إشارات خاصة بمرور الدراجات الهوائية. رابعاً، إنشاء شبكة طرق وجسور وأنفاق ومعابر للدراجات في جميع المناطق اللبنانية. خامساً، تحويل خط السكة الحديد الساحلي، الملغى والمعطل منذ العام 1975، طريقاً مؤهّلاً للدراجات، وسيكون لهذا المشروع الرائد دور حيويّ في تنمية هذا الشريط الساحلي من أقصى الجنوب اللبناني الى أقصى الشمال، وسيكون نقطة جذب جديدة في السياحة اللبنانية. سادساً، تخصيص الشوارع الضيقة في المدن للدراجات الهوائية فقط، ومنع دخول السيارات، وهو تدبير يعطي تلك الشوارع طابعاً خاصاً في نسيج المدينة الاجتماعي والسياحي. وثمة اقتراح بانشاء مسارات خاصة بالدراجات الهوائية في محمية جزيرة النخل قبالة طرابلس، في خطة لسياحة بيئية انمائية حسنة التنفيذ والادارة.
حدائق الدراجات
في العاصمة اللبنانية، ما زال الانتقال بواسطة الدراجة الى العمل والمدرسة والاسواق، وحتى للرياضة، خجولاً ونادراً. ولعلنا بحاجة الى إعادة نظر في عاداتنا المكتسبة. ففي مفهوم الحضارة العصرية، استعمال الدراجة الهوائية ليس تخلفاً، أو عيباً، بل التخلف والعيب في أن تصبح مدننا على هذه الدرجة من الاختناق بالسيارات، وفي استعمال السيارة لجميع تنقلاتنا داخل المدينة ولو لمسافات قصيرة.
لكن بيروت بدأت تستعيد هواية ركوب الدراجة الهوائية للنزهة والرياضة. وقد تتطور هذه الهواية، فنرى في المستقبل طلاباً يذهبون الى مدارسهم وجامعاتهم وموظفين الى أعمالهم على دراجات هوائية. وليس بعيداً أن يروج ركوب الدراجات المزوّدة بسلال خاصة للتسوّق، كما في المدن الاوروبية، بل قد نرى نوّاباً يوقفون دراجاتهم الفخمة أمام البرلمان!
في بيروت ومدن أخرى على الساحل اللبناني، برزت حديثاً ظاهرة تأهيل ساحات كبيرة مسّيجة حيث يتم تأجير الدراجات الهوائية وتعليم ركوبها. هناك يزدحم الهواة من جميع الاعمار، خصوصاً أيام العطل الاسبوعية والاعياد، حتى يصحّ أن نسمي تلك الساحات حدائق للدراجات. وينطلق المبتدئون، صغاراً وكباراً، يتدرّبون على ممارسة الهواية الجديدة. وسرعان ما يصبحون بارعين، فينطلقون خارج «الحديقة» الى شوارع المدينة.
في حدائق الدراجات، يتحرّر العمر من سنواته، فيصبح الاهل والابناء عمراً صغيراً واحداً يمرح على الدراجة بمتعة وبراءة وحرية. انه سر هذه الرياضة. فلا تدعوا الفرصة تضيع منكم. اركبوا الدراجة الهوائية، في بيروت وفي جميع المدن والقرى العربية حيث أمكن، للرياضة والتسلية. وجرّبوها في الذهاب الى المدرسة والجامعة والعمل والتسوّق. وطالبوا الدولة بتأهيل الطرق وفتح مسارات لمرور هذه السيّارة اللطيفة.
حافظ جريج ناشط بيئي ومصور محترف من بلدة أنفا في شمال لبنان. وهو كتب هذا المقال لـ «البيئة والتنمية» وأرفقه بمجموعة من الصور التقطها في بلدان مختلفة.