يتوقع المرء عند لقاء ديفيد ويمبرلي أن يرى رجلاً ضاحكاً عالي الصوت ككثير من سكان نوفاسكوشيا. لكن هذه ليست طبيعته.
قبل اثني عشر عاماً، وضعت الاقاليم الكندية هدف 50% بحلول 2000، أي الغاء نصف كمية النفايات الصلبة التي ترسل الى المطامر والمحارق. وقد قام اقليم نوفاسكوشيا بهذه المهمة خير قيام، لا يدانيه في ذلك أي اقليم آخر. وتوافد مسؤولون من هونغ كونغ وايرلندا وروسيا وبلدان أخرى الى عاصمة الاقليم هاليغاكس لرؤية ما يجري هناك.
عمل ديفيد ويمبرلي بجد ونشاط لتحقيق هذا الهدف. انه رجل مضياف، دائم الحركة، محب للعمل، ومتقن لعمله. وهو صانع المزامير البارع الوحيد في كندا، وفي ورشته المتواضعة الملحقة بمنزله يبتدع المزامير المتقنة الجميلة التي يصوغها من الفضة والذهب. وقد شغلته قضية النفايات أكثر من ثماني سنوات. وكعضو ناشط في جمعيته "هذه ليست نفايات" (It's Not Garbage) أعد وثائق وأجرى بحوثاً ووضع خططاً وحضر اجتماعات وندوات لا تحصى. وبمساعدة زميل له أنتج نحو 30 حلقة تلفزيونية حول النفايات الصلبة. ومن يتحدث معه سرعان ما يتبنى له أنه عملي ومتشدد في القضايا البيئية ومثالي وصاحب مواقف جريئة.
"لا، لست موافقاً تماماً على ما توصلنا اليه"، قال وهو جالس في غرفته المشمسة المطلة على خليج سانت مرغريت جنوب غرب هاليفاكس، "ينبغي ألا تكون هناك نفايات عضوية في المطمر، لكن المتعهد الذي يديره حصل على اذن بالقاء نفايات عضوية ثابتة فيه". واستطرد مضيفاً: "كما لا توجد أموال كافية للترشيد ولتسميد النفايات في المنازل. والنظام برمته ممكنن جداً وتقني جداً ومكلف جداً، ويتطلب نقليات مكثفة للنفايات".
لكن جهود أشخاص مثل ويمبرلي وضعت نوفاسكوشيا عالمياً في طليعة الاقاليم الممارسة لاعادة التدوير، لا تنافسها إلا أماكن قليلة في أوروبا. ومع ذلك يقول ويمبرلي بشيء من الاحباط ان الامور ما كان يمكن ان تسير بشكل أفضل بكثير.
عام 1990، اتجهت الانظار الى مطمر للنفايات عمره 20 عاماً من ضاحية ساكفيل، كان يخدم بلديات هاليفاكس ودارتموت وبدفورد ومقاطعة هاليفاكس التي يسكنها مجتمعة نحو ثلث سكان الاقليم. وكان الوضع في المطمر سيئاً، تنبعث منه روائح كريهة وغازات سامة وترشح منه ملوثات سائلة. وكان يمد أسراب النورس الصاخبة بالغذاء. "لا أحد يتوقع وجود مطمر كهذا في كندا، قال كين دونيلي الخبير في ادارة النفايات، مضيفاً: "لقد كان شبيهاً بصورة من العالم الثالث".
وكان ممتلئاً، بانتظار اغلاقه نهائياً في أواخر 1996. وفي ذلك الوقت كانت مدينة هاليفاكس تنتج 730طناً من النفايات في اليوم. فأين تذهب بها؟ ولم يكن وارداً انشاء مطمر آخر، لأنه كان سيلقى معارضة شرسة. فاقترحت سلطات المدينة اقامة محرقة في ميدان صناعي في دارتموت. لكن هذه الخطة أثارت هي أيضاً موجة احتجاجات قوية من جماعات بيئية وصحية وشعبية.
في أيار (مايو) 1993، وسط احتدام الجدل، انتخبت حكومة جديدة للاقليم برئاسة جون سافاج رئيس بلدية دارتموت الاسبق. ورفض وزير البيئة الجديد روبي هاريسون اقتراح المحرقة.
فماذا بعد؟ عاد التفكير باقامة مطمر آخر، لكنه سيكون في مقاطعة هاليفاكس هذه المرة. لذا قرر مجلس المقاطعة ان يأخذ على عاتقه عملية التخطيط للمنطقة بكاملها، واتخذ خطوة مفاجئة إذ أحال المسألة على المواطنين: إذا كنا لا نستطيع الحرق، ولا نريد مطمراً آخر يذكرنا بمأساة مطمر ساكفيل، فماذا تريدوننا أن نفعل؟
وقع الاختيار على الخبير دونيلي ليشرف على تشكيل لجنة أهلية تمثل جميع المعنيين، لاستعراض الخيارات ووضع خطة عمل. وهو يقول: "كثير من الاشخاص في جماعات بيئية أو صحية، مثل ديفيد ويمبرلي، حاربوا المحرقة بقوة، وكانوا على استعداد لمحاربة أي حل يتم طرحه. لذلك كانت الفكرة أن نجمعهم ونجعلهم يتشاركون في حل المشكلة". وفتحت الاجتماعات أمام كل ما عاش أو عمل في هاليفاكس. وكان يتم الاعلان عن موعد كل اجتماع، ويحضره ما بين 30 و100 شخص، وبلغ عدد المشاركين نحو 500. وكان اتخاذ كل قرار يتم بالاجماع.
وتبين أن المواطنين يتقدمون الحكومة في تفكيرهم. فالحكومات تريد حلولاً تكنولوجية لأنها لا تظن ان الناس سيغيرون سلوكهم. لكن المواطنين وجدوا أن مفتاح الحل هو في تغيير السلوك: اذا كنا لا نريد كثيراً من النفايات في المطمر، فينبغي ألا نضعها فيه. ويجب ألا ننظر الى النفايات على أنها مجرد قمامة، بل أن نفكر فيها كمصدر لموارد ذات قيمة. فالنفايات العضوية، مثلاً، هي سماد بالانتظار، فلماذا ندعها تلقى في المطمر؟
محظورات لا تُرمى
يقول دونيلي: "توصل المواطنون الى فكرة حظر القاء النفايات العضوية في المطمر. لا أحد قال هذا من قبل، وهو لم يحدث في أي مكان آخر من كندا". واقترحت الخطة، التي كشفت عنها اللجنة المكلفة في آذار (مارس) 1995، حظراً أولياً على الاطارات والورق والالومنيوم والعبوات الزجاجية والبرادات والمواقد والنفايات الخطرة وعلب الصفيح (التنك) ومخلفات الحدائق وفضلات الطعام. وكان الهدف فرض حظر نهائي على "جميع المواد التي يمكن اعادة تدويرها، أو تحويلها الى سماد، أو تنطوي على خطورة، أو تنتج عن أعمال البناء والهدم". واقتضت الخطة من أصحاب المنازل والاعمال فرز نفاياتهم لكي يتم جمعها منفصلة ومعالجة كل نوع على حدة. وكانت خطة مماثلة تنفذ بشكل جيد في مقاطعتي لوننبرغ وكولشستر الريفيتين وفي مقاطعة برنس، فلماذا لا تطبق في هاليفاكس أيضاً؟
في أوائل 1996، أعلنت سلطات الاقليم دمج البلديات الاربع المشاركة في واحدة تدعى بلدية هاليفاكس الاقليمية. وقدمت اللجنة خطتها المقترحة، فقبلها المجلس البلدي الجديد على الفور.
لم تكن هاليفاكس المدينة الوحيدة التي تواجه مشاكل خطيرة تتعلق بادارة النفايات. فالمطامر الملوِّثة والمحارق البدائية كانت تعم الاقليم. وفي تموز (يوليو) 1994، عين وزير البيئة الخبير مارتين جانوتز رئيساً للجنة الاستشارية الاقليمية الاستراتيجية ادارة النفايات. وكان أمامه 90 يوماً لتنظيم لجنته، و95 يوماً لعقد جلسات استماع في أنحاء الاقليم، و45 يوماً لاعداد تقرير. وأكد التقرير أن سكان نوماسكوشيا يريدون عملاً جدياً ومترابطاً يشمل الاقليم بأسره، ويدعمون هدف "50% بحلول 2000". وتم اقرار قانون بيئي جديد للاقليم في بداية 1995، نص مباشرة على هذا الهدف.
أُعلنت الانظمة الاقليمية، التي بنيت على أساس تقرير جانوفيتز، في شباط (فبراير) 1996. واشتملت على مجموعة مرحلية من المحظورات خاصة بالمطامر. فاعتباراً من مطلع نيسان (ابريل) 1996، لم يعد بامكان سكان نوماسكوشيا رمي عبوات المرطبات والكرتون وأوراق الصحف والبطاريات. وفي حزيران (يونيو) 1996 فرض حظر على ورق النباتات والاشجار ومخلفات الحدائق. وبعد سنة شمل الحظر الاطارات والطلاءات والسوائل المانعة التجمد، تلاها عام 1998 حظر على القوارير الزجاجية وعلب الصفيح والمواد العضوية التي يمكن تحويلها الى أسمدة. وفي نهاية 2000، حققت نوفاسكوشيا تحولاً بنسبة 50%، فيما حققت هاليفاكس وحدها نسبة 61%.
وما زال هناك بعض المتذمرين، ولكن بالنسبة الى غالبية سكان نوفاسكوشيا أصبح فرز النفايات وتسميدها واعادة تدويرها عملاً روتينياً. فالقمامة التي لا يستفاد منها في أكياس خضراء وتذهب الى 17 مطمراً في الاقليم، تم تحديث الكثير منها تمشياً مع المقاييس المقرر اعتمادها بحلول سنة 2005. وأقفل أكثر من 80 مطمراً، على أن يقفل نصف الباقي خلال خمس سنوات.
أما النفايات الصالحة لاعادة التدوير فتوضع في أكياس زرقاء، وتنقلها شاحنات من جوانب الطرق في أنحاء الاقليم. ويستفاد من النفايات العضوية بطرق مختلفة. فكثير من الناس يسمدونها في حدائق منازلهم لاستعمالها في تسميد مزروعاتهم.
وفي المدن الكبرى، يضع السكان نفاياتهم العضوية في حاويات بلاستيكية خضراء كبيرة تتولى شاحنات خاصة رفعها. ومن يتبع احدى هذه الشاحنات في هاليفاكس مثلاً، تقوده الى أحد مصنعي تسميد كبيرين يملكهما القطاع الخاص في منطقتين تجاريتين. وفي دارتموث يقع مصنع التسميد الذي هو بحجم ملعب كرة القدم على أرض مساحتها ثلاثة هكتارات. ويتم تفريغ الحمولات الآتية على أرضية اسمنتية، ومن ثم تلقّم على سير متحرك. وأثناء تحركها، يزيل العمال منها مواد صالحة لاعادة التدوير، وملوثات متنوعة، فيما يتولى سير ممغنط استخراج المواد الحديدية والفولاذية. وفي حجرة التسميد الرئيسية، تكدس النفايات المتبقية بكثافة ثلاثة أمتار على منصة مهواة، وتتحرك ببطء داخل المبنى بواسطة مجذاف فولاذي ضخم، فيما عملية التحلل ترفع حرارتها الى 55 درجة مئوية. ويستغرق اكتمال عملية التسميد نحو 90 يوماً، ويباع السماد الى معامل خلط الاتربة والمزارعين وأصحاب الحدائق.
هذا حسن... ولكن
محطة اعادة التدوير في هاليفاكس هي مبنى بحجم مستودع كبير، تفرز فيه النفايات الزجاجية والبلاستيكية والمعدنية والمواد الاخرى الصالحة لاعادة التدوير في أثناء انتقالها على سيور متحركة. وتشحن المواد المفروزة الى المصانع التي تحولها الى منتجات جديدة. فالزجاج يصبح قوارير، والبلاستيك يصبح أشياء تراوح من السجاد الى مواد البناء وحتى القمصان، والورق المستعمل يصبح ورقاً جديداً، والطلاء المستهلك يصبح طلاء جديداً. وبعض هذه المصانع موجود في نوماسكوشيا، ويتم انشاء المزيد منها باستمرار. وفي هانتسبورت، تصنع شركة "CFK" علب البيض ومنتجات أخرى من أوراق الصحف القديمة، فيما تصنع شركتا "ميناس بيسن بلب" و"باور" الورق المقوى من الكرتون المموّج. وفي ديبرت، تحول شركة "ثرموسل" ورق الصحف الى مادة سلولوزية عازلة، فيما تتولى شركة "انلاند فيولز" اعادة تدوير الزيوت المستهلكة. وفي أميرست، تطحن شركة "نوفابيت" قوارير المرطبات البلاستيكية وتحولها الى رقائق تباع لمصنعي السجاد والملابس. وفي كونواليس، تعيد شركة "نوفاتاير" تدوير الاطارات القديمة بعد جمعها من محطات الخدمة وتجار الاطارات، فتصبح قطع سيارات وحصائر ومصانع مطاطية. وقد خلقت هذه المبادرات نحو 1000 فرصة عمل جديدة. ويعمل 3000 من سكان نوماسكوشيا الآن في صناعات ادارة موارد النفايات.
"هذا حسن"، يقول ديفيد ويمبرلي، "لكن مواد مثل الالومنيوم وعلب الحليب والزجاج تشحن مسافات بعيدة، الى اونتاريو وكيبيك، وحتى الى بنسلفانيا وجورجيا في الولايات المتحدة. ونظام التسميد يستهلك كثيراً من الطاقة في الشحن والمعالجة. أليس من الافضل أن نلح على المستهلكين والشركات في نوماسكوشيا بأن ينتجوا من الاساس نفايات أقل؟"
لا شك أن هذا سيكون أفضل، وقد يحدث مع الوقت. لكن كيف السبيل الى فهم ما حدث فعلاً؟ كيف انتقلت نوماسكوشيا من متقاعسة في مجال التخلص من النفايات الى ريادية؟ في رأي كين دونيلي، هاليفاكس تقدمت المسيرة وتبعها الاقليم. ومن العوامل الرئيسية التي ساهمت في انجاح عملية هاليفاكس واقع الحال في مطمر ساكفيل وشجاعة بعض مسؤولي البلدية وصواب رؤية المتطوعين الذين اقترحوا محظورات على المطمر ودافعوا عنها والتزموا بها. كما شارك في انجاح العملية عدد من وزراء البيئة الاقليميين الذين توالوا على تحمل المسؤولية، خصوصاً هاريسون ومن سبقه وتلاه من وزراء. فأحدهم كان أول من قبل عام 1989 هدف الـ"50% بحلول 2000"، وأبدى آخر اهتماماً خاصاً بالاطارات وعبوات المرطبات، وركز ثالث على البلاستيك والمواد العضوية، وأراد رابع برنامجاً أفضل للطلاءات المستعملة. وكانت رسالتهم جميعاً: "تابعوا العمل".
في رسالته لنيل الماجستير عام 1998، وموضوعها صنع السياسة البيئية، أشار جانوفيتز تحديداً الى "قوة الرؤية الاجتماعية التي يؤمن بها الشعب أو على الاقل يفهمها".
ان نجاح عملية تحويل النفايات في نوفاسكوشيا لم يكن ثمرة جهود حفنة من الافراد، بل الالوف، من رؤوساء حكومة ووزراء ومتطوعين ومتقاعدين ومثقفين وصانعي مزامير. وربما كان ذلك جوهر القضية. فقد كانت عملية التخطيط مفتوحة للجميع. ولم تؤخذ آراء المواطنين على محمل الجد فحسب، وانما كانت ُتستجدى وتُخدم. فأصبحت الاستراتيجية استراجيتهم، ولدى تنفيذها تقبلوها بسرور ودافعوا عنها وسهّلوا عملها. والآن أصبحت فخر الامة، وأصبح كل مواطن في نوفاسكوشيا جزءاً منها. وبالنسبة الى اقليم صغير غير معتاد على الاحداث الكبرى، كانت هذه التجربة دافعاً لتحقيق المزيد. فمدينة أنابوليس رويال، أقدم مستوطنة في كندا، تستعد للاحتفال بعيد ميلادها الـ 400 سنة 2005 بعدم انتاج أي نفايات صلبة على الاطلاق.
انها تجربة شعب عرف حقيقة ما يريد، فقال كلمته، وعمل، وتحقق له ما أراد.
سيلفر دونالد كاميرون محرر وكاتب تحقيقات في صحيفة "صنداي هيرالد" في هاليفاكس.