تصادف الطيور في هجرتها السنوية تحديات قاسية، من الصيد وإزالة الغابات وتجفيف المستنقعات إلى الامتداد العمراني وأبراج الاتصالات و... توربينات الرياح
صنَّف العلماء الطيور في نحو عشرة آلاف نوع تنتشر فى أرجاء الكرة الأرضية. منها الصغير الذي لا يزيد طوله على خمسة سنتيمترات والكبير الذي يقترب من ثلاثة أمتار، منها المغرد ومنها الناعق، منها ما لا يمكنه الطيران كالبطريق وكثيرها يطير آلاف الكيلومترات عبر القارات كل سنة.
أنطقها الـله بالحكمة على لسان هدهد سليمان. وعلَّم الغراب قابيل كيف يدفن أخاه فتطيَّر منه العرب، فيما رأى فيه البريطانيون رمزاً للحياة. واعتبر آخرون النعامة رمزاً للجبن. ونُسجت أساطير حول طائر الرخ العملاق. وقديماً أجلّ المصريون حورس في شكل صقر.
تهاجر الطيور خلف أقواها، هرباً من شتاء أوروبا القارس إلى دفء أفريقيا، حيث تتكاثر وتربي أفراخها. وما إن يبدأ فصل الربيع حتى تشرع أسرابها في العودة نحو أوكارها في أوروبا عبر مسارات ثابتة لا تتغير. ويسلك كثير منها مسارات مختلفة ذهاباً وإياباً. وتختلف استراتيجية هجرتها باختلاف أنواعها، متخذة ثلاثة مسارات رئيسية تنسب إلى البحر المتوسط هي: الشرقي والغربي وعبر البحر.
يمتد المسار الشرقي على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط، مروراً بمضيق البوسفور ـ ممر بلين في تركيا ووادي غور الأردن. فيعبر قسم من الأسراب سيناء والساحل الغربي للبحر الأحمر ونهر النيل، فيما يجتاز القسم الآخر غرب سورية والأردن مروراً بالساحل الشرقي للبحر الأحمر في السعودية واليمن ليعبر البحر الأحمر إلى وسط وجنوب أفريقيا. وتتبع بعض الطيور ساحل البحر المتوسط غرباً عبر مصر لتقضي الشتاء في تشاد.
وتقوم بعض الطيور، التي تستطيع التحليق لمدة طويلة من دون توقف، بعبور البحر المتوسط مستخدمة الجزر كنقاط استراحة. فتمر من جنوب إيطاليا عبر جزر مثل صقلية ومالطة إلى تونس، في ما يعرف بمسار عبر البحر المتوسط (إيطاليا - تونس).
أما المسار الغربي، فيمتد عبر الساحل الغربي للبحر المتوسط، مروراً بمضيق جبل طارق، إلى الساحل الغربي للمحيط الأطلسي، لتقضي الطيور فصل الشتاء في غرب أفريقيا.
«الجسر» المصري
هناك أكثر من مليون ونصف مليون طائر تستخدم مسار الأخدود العظيم في البحر الأحمر، ثاني أهم مسار لهجرة الطيور في العالم، خلال هجرتها السنوية بين مناطق تكاثرها في أوراسيا وجنوب أفريقيا حيث تقضي فصل الشتاء. من هنا تحتل مصر مكانة مهمة، نظراً لموقعها الجغرافي كجسر بري بين القارات، وعلى أراضيها عدة مناطق حيوية في مسار هجرة الطيور، مثل سهل القاع ورأس محمد والعين السخنة.
ويمكن للطيور المحلقة كاللقالق وأبو منجل والطيور الجارحة كالنسور والصقور والحدآت قطع مسافة 300 كيلومتر يومياً، متجنبة المسطحات المائية قدر الإمكان، باحثة عن أضيق ممرات العبور بين كتل اليابسة. ومع تغير جغرافيا المناطق التي تمر بها، تتحدد المخاطر التي تتعرض لها فى رحلتها السنوية. كما قد يؤدي الامتداد العمراني والسياحي وإنشاء أبراج الاتصالات في المناطق الحرجة إلى تعرض الطيور للخطر، خاصة إذا هبطت لتناول طعامها في مكبات القمامة ومسارات الصرف الصحي، حيث تتعرض للتسمم والإصابة بالأمراض، إلى جانب تعرضها لعمليات الصيد الجائر.
شفرات التوربينات
مع أن مشاريع طاقة الرياح تصنف صديقة للبيئة، إلا أنها يجب ألا تؤثر سلبياً على الطيور، لذا يجب تضمين تأثر هجرة الطيور في دراسة الأثر البيئي للمشروع. وإذا كانت إجراءات التخفيف ممكنة، مثل توقيف التوربينات أثناء مرور الأسراب المهاجرة، فقد يوصى بأن تؤخذ في الاعتبار. وهذا ما حدث عند إعادة تخطيط مشروع طاقة الرياح في جبل الزيت في مصر.
وتتمتع منطقة جبل الزيت بسرعات رياح عالية، مما يجعلها مقصداً لإقامة توربينات الرياح لإنتاج الطاقة. إلا أن متوسط ارتفاع التوربينة الواحدة يصل إلى 70 متراً، ويتخطى ارتفاع أعلى نقطة للريشة 100 متر. وكلما زاد ارتفاع التوربينة وطول ريشتها استطاعت حصاد مقدار أكبر من الطاقة فتزيد إنتاجيتها من الكهرباء. كذلك في لبنان، تتمتع منطقة عكار بسرعات رياح تكفي لتطوير مشاريع طاقة الرياح. إلا أن كلتا المنطقتين يعبرهما نحو 37 نوعاً من الطيور المحلّقة المهاجرة، الأمر الذي يستدعى عمل المتخصصين في الطيور وتقنيات الرصد وطاقة الرياح على ابتكار وسائل جديدة تسمح بحماية الطيور مع استمرار عمل التوربينات في إنتاج الطاقة الخضراء.
ويُعد استخدام الرادار كوسيلة لرصد الطيور عن بعد واتخاذ قرار وقف التوربينات حتى مرورها بالغ الأهمية. وعلى رغم أن العاملين فى مجال الطاقة يرون في توقف التوربينات خسارة غير مبررة، إلا أن هذا الحل يسمح بالتوفيق بين تقنيات إنتاج الطاقة النظيفة وحماية الطيور. من جهة أخرى، تستخدم تقنية أخرى تعتمد على كاميرات، ما إن ترصد طيراً حتى تصدر ذبذبات عالية الصوت تكفي لإبعاد الطيور عن مرمى شفرات التوربينات. وقد أثبتت هذه التقنية نجاحها مع أسراب أصغر من تلك التي تعبر في مسارات الهجرة.
إن إقامة مشاريع عمرانية أو تنموية في الموائل التي تحط فيها الطيور خلال هجرتها قد يهدد حياتها أو يصيبها ببعض الأمراض. من هنا تأتي أهمية إجراء دراسات بيئية ترصد التأثيرات المحتملة لإقامة المشاريع التنموية، ليس فقط على الطيور وإنما على الحياة النباتية والحيوانية بثرائها وتنوعها وتفردها. فاستخدام المياه في تلك المشاريع، بلدياً أو صناعياً، قد يهدد حياة الطيور، خاصة عندما تعود مياه الصرف محملة بالمواد الكيميائية والرواسب، فضلاً عن سحب كميات من الماء تهدد حصول الطيور على حاجتها. ليس هذا فحسب، بل إن إنشاء أبراج عالية للاتصالات ونقل الكهرباء يعرضها لأخطار التصادم.
من هنا تعد التشريعات الوطنية سياجاً لحماية البيئة وثرواتها. وهذا يتطلب برامج لمتابعة الطيور المهاجرة ورصد دقائق حياتها، من عمليات تكاثرها وما تحتاجه من غذاء إلى وسائلها الطبيعية في تفادي المخاطر التي تواجهها من بني الإنسان.
الدكتور محمد الخياط مدير إدارة الشؤون الفنية في هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة في مصر.