اختلفت المصادر العلمية في تحديد مكان وأوان شجرة النخيل. فبعضها أكد عثور علماء الآثار على سعف نخيل في احدى المقابر الفرعونية في سقارة التي تبعد عن القاهرة حوالى 30 كيلومتراً، وهي منطقة غنية بآثار الأسر الفرعونية ولا سيما الأسرة الـ18 التي تعود الى 7000 سنة قبل الميلاد. وأشارت مصادر أخرى الى أن نخيل البلح ظهر أول ما ظهر في أرض الرافدين ولا سيما العراق. وباحت مدونات التاريخ بأن أوراق السعف افترشت أرض أورشليم عندما دخلها السيد المسيح في رحلة البشارة.

عموماً، يعتقد أن نخيل البلح نشأ في منطقة الخليج وما حولها، وخاصة في العراق. وتعتبر المنطقة العربية مركز زراعته، ففيها نحو 98 في المئة من نخيل العالم، ويقدر عددها بنحو 98 مليون نخلة.

في منطقة عزبة النخل التي تبعد حوالى 20 كيلومتراً عن شمال القاهرة ينتشر نحو مليون نخلة. لكن زحف البناء على الأرض الزراعية يهدد بالتهام النخيل الذي يعتبر المحصول الرئيسي للسكان ومصدر نعمتهم. لذلك لا تمتد يد ابن العزبة لنزع النخلة أو "ذبحها" أو زحزحتها عند بناء مسكن جديد، بل يتبع طريقة طريفة لبناء بيته من دون إيذاء النخلة.

وقد قصدتُ عزبة النخل لمشاهدة وتصوير مساكن نادرة خضعت لأوامر الطبيعة واحترمت النخلة وطوعت المبنى وفق حركتها ونموها. في هذه البلدة قول مشهور: "ازرع نخلة يوم ميلاد ابنتك، وسوف تزوجها من ثمارها وخيرها". ويقصد به أن النخلة تكبر مع الابنة، فتبيع ثمارها، وبنقودها تشتري جهازها.

هل الأعراف تلعب دورها في صياغة القيم الحضارية؟ إن تتبع السلوك البشري في عملية العمران أمر مثير للاهتمام، خاصة اذا كان نابعاً من الأفراد أنفسهم دونما تدخل من الدولة. فالعمارة بمفهومها الصحيح انعكاس للمجتمع.

في ظل الأعراف، أبى السكان أن يقتلعوا النخل المنتصب في أراضي مبانيهم، فتواضعوا في البناء وطوعوه ليبقى عطاء هذا الشجر. فالنخلة، والكلام لأهل البلدة، هي الشجرة المباركة التي ورد ذكرها في عشرين آية قرآنية وأكثر من ثلاثين حديثاً عن الرسول. وفي حديث شريف أن النخلة تشبه المؤمن في استقامتها وكثرة خيرها وطول عطائها ودوام ظلها وطيب تمرها ووجودها على الدوام. ولو قطع رأسها هلكت، ولو قطع منها غصن لا يطلع مكانه، وعليها ألياف كشعر على جسم الانسان. والنخلة مصدر للمأوى والغذاء والرزق والتداوي، وفي التمرة الواحدة جميع العناصر الغذائية التي يحتاجها جسم الانسان، وهي وجبة كاملة لا تحتاج الى إضافات، وبدء الافطار بها سنّة عن الرسول. وقد يمتد عطاء النخلة أكثر من مئة عام.

أهالي عزبة النخيل عانقوا أشجارهم ببيوتهم. وأي شهادة أبلغ من هذه في المحبة التي تقابل العطاء؟ حين هممت بمغادرة البلدة سمعت همساً ينصحني: كن كالنخيل عن الأحقاد مترفعاً، ترمى بحجر فترمي أحلّ الثمر.

النخلة اسم شائع لعدة أنواع من الأشجار النامية في مناطق استوائية. ونخيل البلح مستوطن في شمال افريقيا وجنوب غرب آسيا والهند. جذع نخلة البلح مستقيم خشن ينمو حتى علو 18 متراً، ويحمل رأساً من الأوراق السعفية التي يبلغ طولها حوالى ثلاثة أمتار، وعناقيد يحمل كل منها في الشجرة الأنثى ما بين 200 و1000 بلحة. ويصل وزن عنقود البلح الى 12 كيلوغراماً، وقد يبلغ المحصول السنوي للشجرة الواحدة 270 كيلوغراماً. وتبدأ النخلة الحمل في حوالى السنة الثامنة، ويكتمل نضجها بعد 30 سنة، وتبدأ في التراجع بعد نحو 100 سنة. ومنذ القدم، كان المزارعون يساعدون في عملية التلقيح، فيقطعون عنقود الأزهار الذكري مباشرة قبل أن تنضج الأعضاء الذكرية ويعلقونه بين أزهار الشجرة الأنثى.

في مناطق كثيرة من شمال افريقيا وشبه الجزيرة العربية، تشكل أشجار النخيل الثروة الرئيسية للناس، والتمور عنصر غذائهم الأساسي. ويتناول الصائمون التمر عند الافطار عادة، لأن المواد السكرية فيه تُمتص بسرعة وتعوض الجسم نقص السكر في الدم أثناء الصيام. ويحتوي التمر على نحو 60% من السكريات (غلوكوز وفروكتوز وقليل من السكروز) التي تعتبر مصادر للطاقة في الجسم، وعلى فيتامينات مثل الفيتامين "أ" الذي يستخدم في علاج العشى الليلي وبعض أمراض العيون ومشاكل الخصوبة، وعلى أصناف من الفيتامين "ب" ولا سيما الحمض النيكوتيني الذي يعالج به مرض الحصاف (البلاغرا) الناشئ عن نقص التغذية، وعلى معادن مثل الكالسيوم والفوسفور اللازمين لتكوين الاسنان والعظام، وعلى البوتاسيوم والحديد والمغنيزيوم. وهكذا فمن الممكن أن يحصل الانسان من التمر على كامل حاجته من السكر وبعض المعادن والفيتامينات الرئيسية.

وأفادت أبحاث أن التمر يقلل امتصاص الكولسترول من الأمعاء، مما يخفض نسبته في الدم. وهو ينشط إفراز هورمون البرولاكتين الذي يؤدي الى إدرار الحليب لدى المرأة المرضع. وقد ورد في سورة مريم: "وهزي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً". فالسكريات الموجودة في التمر تمد الجسم بالطاقة الضرورية لعملية الولادة، والكالسيوم يساعد على تقوية الدم لتعويض ما فقده الجسم عند الولادة. ولكن لا بد من نصيحة لمرضى السكر بالإقلال من التمر حسب نسبة السكر في دم كل منهم، علماً أن خمس تمرات (نحو 45 غراماً) تحتوي على نحو 115 وحدة حرارية (كالوري).

النخلة كلها فوائد. فمن أوراقها تصنع مكانس وحصائر، ومن الجريد (السعف) سلال وكراسي ودعائم سقوف وجدران، ومن الألياف مقشات وحبال، ومن النوى أزرار، ومن الجذع خشب، ومن الثمر طعام وعلاج.