في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أجازت اتفاقية التجارة الدولية بالأنواع الحيوانية والنباتية المهددة بالانقراض (سايتس) بيع عاج الفيلة، بعد حظره عالمياً منذ عام 1989. فقد سمحت لثلاثة بلدان افريقية، هي ناميبيا وبوتسوانا وجنوب افريقيا، ببيعة واحدة من العاج المكدس لدى كل منها هي 10 أطنان للاولى و20 طناً للثانية و30 طناً للثالثة.
جايسون بيل، مدير الصندوق الدولي لحماية الحيوان في افريقيا الجنوبية، اعتبر القرار "تفويضاً بالقتل لألوف الفيلة في افريقيا وآسيا، التي باتت بسببه هدفاً لعصابات القتل المنظم تلبية للطلب المتزايد على العاج غير المشروع". وقد صُدمت المنظمات البيئية والناس حول العالم بهذا القرار الذي يفتقر الى بعد النظر. لكن علينا أن نتذكر أن "سايتس" هي "اتفاقية دولية بين حكومات"، هدفها "ضمان أن التجارة الدولية بأنواع من الحيوانات والنباتات البرية لا تهدد بقاءها". وهي لم تأتِ الى الوجود لحماية حيوانات محددة ولمنع ممارسات فظيعة، والانتساب اليها طوعي، ولوائحها لا تحمل قوة القانون الدولي، ولكن يمكنها فرض عقوبات على البلدان التي تخالف أحكامها. وكما أن من غير الواقعي أن نتوقع من وكالات الحياة البرية في الولايات المتحدة حماية كاملة، باعتبار أن جزءاً من تمويلها يأتي من بيع رخص الصيد، فمن الخطأ أن ننتظر من "سايتس" حماية كاملة على الصعيد العالمي. وما دامت أعضاء الحيوانات المهيبة الآيلة الى الاضمحلال تعتبر سلعاً تجارية، فان هذه الحيوانات تبقى في خطر.
ممارسات وحشية
التجارة العالمية بالاحياء البرية واسعة جداً، ومعاناة ملايين الحيوانات تدرّ بلايين الدولارات على مرتكبي المجازر. وهذه التجارة تشمل حيوانات تؤسر وتباع للأكل، أو كحيوانات مدللة مثل الطيور والزواحف والبرمائيات والاسماك، أو لتموين مزارع تربية الطرائد وصيدها مثل الظباء والوعول ووحيد القرن والخراف البرية، أو لبيعها الى حدائق الحيوان ومنتزهات رحلات السفاري مثل الفيلة والزرافات والنمور والقردة والطيور والزواحف.
القبض على قردة الشمبانزي لبيعها الى مراكز الأبحاث الطبية، وغالباً في الولايات المتحدة، يتم بطريقة وحشية بنوع خاص، اذ تطارد الكلاب صغير الشمبانزي حتى تمسك به، وعندما يعود والداه يقتلان، وتؤسر الصغار الباقية. وفي مقابل كل حيوان يصل الى متجر لبيع الحيوانات المدللة، تهلك حيوانات أخرى بشكل مخيف وهي في الطريق أو في الأسر. وينفق كثير منها بعد شرائه بوقت قصير بسبب سوء العناية. وتموت غالبية الزواحف في أول سنة من الأسر، ليس بسبب اصابة جسدية قبل الشراء فحسب، وانما لأن أصحابها لا يستطيعون الوفاء بمتطلباتها الخاصة.
ولعل الجانب الأكثر هولاً في تجارة الاحياء البرية هو الأعضاء الحيوانية. فقد قتلت ألوف الفيلة من أجل عاجها، وقطعت أقدامها لصنع سلال للمهملات. وتصنع منافض سجائر من أيدي قردة الشمبانزي والغوريلا. وفي الصين تعاني الدببة من تعذيب مأسوي، حيث يحتجز أكثر من 7000 دب في أقفاص صغيرة لا تسمح لها بالنهوض أو الدوران. وقد أدخلت مواسير في مراراتها التي "تحلب" مرتين كل يوم للحصول على كميات صغيرة من عصارة الصفراء، التي تعتبر عنصراً مهماً في الطب الصيني التقليدي. وبعد خمس الى عشر سنوات من العذاب، تتوقف الدببة عن انتاج الصفراء، فتترك لتموت جوعاً أو مرضاً.
وتقتل أعداد كبيرة من وحيد القرن (الكركدن) للحصول على عظامها "الهامّة" أيضاً في الطب الصيني. وعلى رغم أن التجارة الدولية بقرونها محظورة من قبل البلدان الأعضاء في "سايتس"، فكثيراً ما يتم تجاوز القوانين والتغاضي عن المخالفات. وفي مسح أجراه الصندوق العالمي للطبيعة قبل أربع سنوات وشمل 110 متاجر تبيع أدوية صينية تقليدية في سبع مدن أميركية، وجدت في نصفها عقاقير تحتوي على مستخلصات من قرون وحيد القرن وأعضاء حيوانات محمية أخرى.
مجازر الفيلة
تجارة العاج هي من أقبح الأفعال التي يرتكبها الانسان بحق نوع من الحيوانات. فالفيلة تقتل باطلاق النار عليها، وتستعمل المناشير لقطع أنيابها وهي غالباً ما زالت حية. فلنتصور الرعب والألم اللذين تعانيهما هذه الحيوانات التي عرفت بذكائها والفتها وروابطها العائلية والاجتماعية القوية.
قليلة هي الوسائل والتدابير المتاحة للقبض على الصيادين غير الشرعيين ومعاقبتهم. وبدلاً من ذلك، يقود هؤلاء الجزارون صناعة تمثل أسوأ ما يمكن أن يفعله البشر. ان تشريع بيع حتى كمية ضئيلة من العاج، كما حصل في مؤتمر "سايتس" الأخير في سانتياغو عاصمة تشيلي، لهو رسالة بأن الصيد غير المشروع يمكن أن يستمر. وقد أفادت جمعية الرفق بالحيوان في الولايات المتحدة أنه بين كانون الثاني (يناير) 2000 وتموز (يوليو) 2002 "أبلغ عن قتل ما لا يقل عن 1063 فيلاً افريقياً و39 فيلاً آسيوياً، وصودرت 54828 قطعة عاج و3099 ناباً (ما يعادل 1550 فيلاً مقتولاً) و6,2 أطنان من العاج الخام (ما يعادل 794 فيلاً مقتولاً)".
اذا كان الوضع بهذا السوء أثناء فرض حظر على البيع التجاري للعاج، فلنتصور فداحة الوضع مع التعهد بفتح الأسواق أمام العاج المكدس، ما يشكل غطاء لتجارة مزدهرة غير مشروعة. ولا ننسَ هنا التجارة بجلود الفيلة وآذانها وخراطيمها وأقدامها.
ان الدعم الدولي للتجارة بالحيوانات المهددة بالانقراض وأعضائها، من أي نوع كانت، يجب أن ينتهي. ولا يجوز اعتبارها سلعاً تجارية مشروعة. وبدلاً من البحث عن وسائل توفر موقتاً بضع دولارات لبلدان تعاني من مشاكل اقتصادية، يجب أن نبحث عن سبل لاحياء حس احترام كل أوجه الحياة، وإرساء اتفاقية دولية هدفها المحافظة على الأنواع الحية ووضع حد للممارسات الوحشية في حقها.
كادر
حمّامات العاج الدموية في أفريقيا: لمحة تاريخية
تجارة الرقيق والتنقيب عن الذهب وانتاج المطاط لم تكن الاغراءات الوحيدة التي جذبت الاوروبيين الى أفريقيا. فقد كان لهم اهتمام خاص بالعاج، ذلك الذهب الأبيض، الذي كان له دور رئيسي في بعض أحلك فصول الحكم الاستعماري للقارة السوداء. فالطلب على هذه "السلعة" الثمينة كان وراء مجازر وحشية أفنت فيلة أفريقيا والشرق الأوسط التي كانت تعدّ بالملايين، امتداداً من منحدرات جبل الطاولة (تايبل ماونتن) في جنوب افريقيا الى ساحل المتوسط في الشمال.
ذكر الباحث مارتن ميريديث في كتابه الحديث "سيرة فيل أفريقيا": أن الطلب على العاج في الحضارات القديمة "كان عظيماً الى حد أودى بجميع القطعان السورية بحلول العام 500 قبل الميلاد". وبسبب ملمسه المريح وقوامه المطواع وجده المصريون القدماء مثالياً لنحت حلى كثيرة كالأساور والخلاخل.
في القرن التاسع عشر، كانت شهية العالم الصناعي لهذه السلعة لا تعرف الشبع، وراوحت منتجاته المتنوعة من مفاتيح البيانو الى كرات البلياردو وعلب السعوط (النشوق) وتماثيل الزينة. والطلب عليه أجَّج زحف دول اوروبية قوية على أفريقيا طمعاً بخيراتها. ومن الحقبات السود في تاريخ هذه القارة عهد الملك البلجيكي ليوبولد في الكونغو التي حكمها بلا رحمة وكأنها إقطاعية شخصية. وكانت عينه على تجارة العاج في البداية. والطرق التي اعتمدها رجاله لانتزاع العاج من السكان الأصليين أرست الأسس لاحقاً لنظام إرهابي في تجارة المطاط. ومنها أن عملاء الشركات كانوا يقطعون أيدي القرويين بقصد ترويع السكان المحليين وإجبارهم على تأمين حصصهم من المطاط.
قضى الصيادون على أعداد كبيرة من الفيلة الأفريقية لانتزاع عاجها. ومع أن العاج الآسيوي يعتبر هشاً وأقل جودة من العاج الافريقي، لكن التضخم السكاني في بلدان مثل الهند قلص عدد الفيلة الآسيوية أيضاً الى نحو 50 ألفاً. وفي أواخر القرن العشرين، أوجد النمو السريع لاقتصادات آسيوية، كما في اليابان، أسواقاً جديدة لعاج الفيلة الافريقية، وتصاعد سعره من 7,5 دولارات للكيلوغرام عام 1970 الى 300 دولار عام 1989.
قتل كثير من حراس المحميات وهم يطاردون الصيادين لمنعهم من قتل الحيوانات المحظورة. وأدى ارتفاع الأسعار الى حمامات دم في الأدغال الافريقية التي شهدت هبوطاً في أعداد الفيلة من 1,2 مليون الى 600 ألف خلال عشر سنوات... الى أن فرض حظر عالمي على الاتجار بالعاج عام 1989.
العاج ينمو على فيلة لا على أشجار!