تقول الاسطورة: بينما كان ملك صور يتنزه على الشاطئ، لاحظ أن الصدفة التي كان كلبه يمضغها صبغت فمه بلون أرجواني لم ير له مثيلاً. فأمر بأن يصنع له ثوب بذلك اللون. وهكذا بدأ صيد صدف الموريكس، أو المريق، الذي صنعت من سائله العديم اللون صبغة الأرجوان. وازدهرت هذه الصناعة في عدد من المدن الفينيقية الساحلية. وتاجر الفينيقيون بالأقمشة المصبوغة من الصوف والشعر والكتان والقنب. وفي الامبراطورية الرومانية، اعتبر الارجوان المستورد من صور جديراً بلبس الملوك وكبار القادة. وما زالت "تلة المريق" في جنوب صيدا، التي يقال انها تكونت من تراكم أصداف الموريكس المستخدمة في استخراج الصباغ الأرجواني، شاهدة على ازدهار هذه الصناعة.
كان استخراج بضع نقاط من السائل الصباغي، وتقطيره، يتطلبان أعمالاً صعبة ومكلفة. وبازدياد الطلب على صبغة الأرجوان، لم تعد قواقع الموريكس كافية لسد الحاجة. فبدأ البحث عن بدائل. في بادئ الأمر، لجأ الفرنسيون الى عملية التخمير النشادري لبعض أصناف الأشنيات (lichens). وفي نهاية القرن الثامن عشر تمكنوا من تصنيع مادة ملوِّنة بفعل تأثير حمض اليوريا (البولة) على الحمض النيتروجيني، ودعيت هذه المادة "موريكسيد" (Murixide). لأن اللون الذي تعطيه شبيه بأرجوان الموريكس. لكن إنتاج هذه المادة واجه صعوبة الحاجة الى كميات كبيرة من بول الحيوانات الثديية، وعلى الأخص اللاحمة منها. فلجأ الكيميائيون الى استخدام زرق الطيور المستورد من البيرو والمكسيك، أو ما يعرف بالغانو (Guano). واستمر إنتاج الموريكسيد للحصول على اللون الأرجواني في فرنسا منذ 1835، ليتراجع عام 1855 بسبب أسعار الغانو الباهظة وظهور جيل جديد من الملونات الصناعية البديلة.
وعانت اوروبا في تلك الفترة من انتشار مرض الملاريا. وكان العلاج يتم بتناول عقار الكوينين المستخرج من لحاء شجر الكينا. وفي محاولة لتصنيع الكوينين مخبرياً، قام العالم الكيميائي وليام بيركن بأكسدة الأنيلين، لكن محاولاته باءت بالفشل، وعوضاً عن الكوينين حصل على مادة بنفسجية اللون دعيت "موفينين"، لتصبح في ما بعد الأولى في سلسلة الملونات الصناعية وتحل محل أصداف الموريكس الى الأبد.
قرمز من لبنان
إضافة الى الأرجوان، برع اللبنانيون الأقدمون بإنتاج الصباغ القرمزي. والقرمز هو عبارة عن صباغ أحمر استخدم لتلوين الصوف والحرير. وكان الحصول عليه يتم بجمع وتجفيف أصناف من الحشرات القرمزية، خصوصاً قرمز السنديان البلوطي المنتشر بكثرة في بلاد المتوسط.
أسماء القرمز بالفرنسية والانكليزية والتركية ولغات كثيرة أخرى تنحدر من التسمية العربية. والمكون الأساسي للصباغ هو الحمض القرمزي الذي نحصل عليه من حشرات قشرية تهاجم أشجار السنديان لتضع بيوضها على الأوراق، متحولة الى بقع أو كرات صغيرة رمادية. وفي شهر أيار (مايو) تجمع الإناث الحاملة للبيوض وتغمر بالخل فتموت، ثم تجفف وتُسحق لتحويلها الى صبغة حمراء.
ظل القرمز مستخدماً كصباغ للأنسجة حتى اكتشاف صبغة الكوشنيل. وحتى وقت قريب كان الناس يبتاعون الأصباغ من المحال المختصة في الأسواق الشعبية، كسوق البزورية في دمشق. وكانت عملية الصباغة جزءاً من الأعمال الموكلة الى المرأة، خصوصاً في الأرياف حيث تربى الأغنام. وقد درج استعمال تسمية "صبغة الدودة" الحمراء، وهي صبغة الكوشنيل التي تمتاز عن قرمز السنديان بصلاحيتها لتلوين المنتجات الغذائية، ولا تستغني عنها النساء السوريات حالياً عند تحضير شراب الورد.
الكوشنيل حشرات قشرية تنتج صبغة من تجفيف إناثها الحاملة للبيوض، ولا سيما مـن نوعCoccus costa. أما المضيف لهذه الحشرات فهو الأجزاء الأرضية لنبات الصبار. والمادة الفاعلة فيها حمض الكارمين الشديد الانحلال في الماء، وهي تعطي ألواناً متغيرة تبعاً لدرجة الحموضة. ففي الوسط الحمضي تعطي هذه المادة لوناً برتقالياً، ومع ارتفاع درجة الحموضة (pH) من 5 الى 7 يتغير من البنفسجي الى الأحمر. ويبدي حمض الكارمين ثباتاً بوجود الحرارة والضوء والأوكسيجين.
استخدم الكوشنيل في الماضي لصبغ الألياف والأنسجة. ومع الانتشار الواسع للبدائل الكيميائية تحول استخدامه الى تلوين مستحضرات التجميل، ولا سيما تلك التي توضع قرب العينين. ويعتبر حمض الكارمين ملوناً هاماً في صناعة الأغذية. أما في صبغ الأنسجة، فيقتصر استخدامه حالياً على ذوي الذوق الفني الخاص.
الفوة الصابغة
حصل المصريون القدماء على اللون الأحمر من جذور الفوة (Rubia tinctoria)، وهو عشب معمر متسلق، ساقه مضلعة تلتف حولها الأوراق بشكل مجموعات، وهي مغطاة بأوبار يستخدمها النبات في التسلق. أزهاره صغيرة صفراء، وجذره طويل يسيل منه سائل أحمر اللون عند كسره. هذا السائل يحتوي على صبغة الاليزارين التي تعطي ألواناً تتدرج من الأحمر والزهري حتى البني، تبعاً لمادة تثبيت اللون المضافة.
في القرن التاسع عشر انتشرت زراعة الفوة في أوروبا، خصوصاً في فرنسا. وجنى مزارعو منطقة الألزاس أرباحاً طائلة لارتفاع سعر هذه النبتة، اذ بلغ ثمن القنطار 200 فرنك فرنسي عام 1865. ولكن رغم استخدام الأليزارين في صبغ سراويل فرسان وضباط الجيش الفرنسي، تراجع سعر القنطار الى 25 فرنكاً فقط بعد عشر سنوات. فقد تمكن العالم هوفمان من معرفة التركيب الكيميائي لصبغة الاليزارين، وأنتجت صناعياً. وفي العام 1977 تم إنتاج كمية من الأليزارين الصناعي تعادل ما ينتجه 30 ألف طن من نبتات الفوة.
النيلة والوسمة
في القرن الثالث قبل الميلاد، كانت منطقة موهينجو دارو في باكستان مركز الحضارة الهندوسية. وفي العام 1947 عثر علماء الآثار هناك على حفر أرضية تحوي كميات من النيلة، وهي صبغة استخدمتها أمهاتنا وجداتنا للحصول على سطوع لوني للأقمشة البيضاء. وكان مصدرها الوحيد قديماً نبتة النيلة (Indigofera) من الفصيلة الفراشية التي زرعت في الهند منذ أكثر من أربعة آلاف سنة.
تعطي أوراق النيلة مادة مائية لا لون لها تدعى انديكان، تخضع لعملية تخمير معقدة تنتج في نهايتها صبغة النيلة. ويتم ذلك بقطع رؤوس الأوراق الطازجة مع جزء من الساق، وتنقع بالماء لمدة تتراوح بين 10 ساعات و15 ساعة حتى تخمر، فيفرّغ السائل ويعرض للهواء لاستكمال عملية الأكسدة، ثم يرقد حتى تنفصل الخثرة التي تجفف للاستعمال في غسل الثياب.
فـي الوقت الـذي اعتمـد فيـه الهنود علـى نبـات النيلة، كـان الفراعنـة يلجأون الـى الوسمة (Isatis tinctoria) المنتشرة بكثرة في منطقتنا حتى اليوم. والوسمة نبات معمر يزهر في شهر تموز (يوليو) أزهاراً صفراء، أوراقه متطاولة، تعطي بعد تخميرها صبغة مماثلة للنيلة. وكما هي حال بقية الأصباغ، تمكن العالم الألماني أدولف باير من تحديد الصيغة الكيميائية للنيلة وإنتاج بديلها الصناعي، ليحصل عام 1905 على جائزة نوبل عن اكتشافه هذا.
ما هي الأصباغ؟
الأصباغ مواد ذات قدرة على صبغ الأقمشة من دون أن يزول اللون بالغسيل أو الاحتكاك. وهناك فرق بين المواد الصابغة والمواد الملونة، فالأزوبنزين مثلاً يلون بلون أحمر آجرّي، ولكنه لا يعتبر صبغة لعدم قدرته على صبغ الألياف.
واذا كانت الصناعة تفوقت على الطبيعة في تزويد الناس بالأصباغ، فإن الملونات النباتية الطبيعية ما زالت تحظى بمكانتها الخاصة. والكثير من النباتات الصباغية تستخدم في تلوين الأطعمة والمشروبات، نظراً لما يتوافر فيها من الشروط والمقاييس الصحية المطلوبة لضمان سلامة المستهلك. وما زالت تزرع مساحات شاسعة من الزعفران والعصفر والأكاسيا والكركم وغيرها لإضفاء الألوان المرغوبة على الأطعمة.
ولعل التطور الصناعي، رغم ما سببه من كوارث بيئية وخسائر اقتصادية للمزارعين في كل بقاع الأرض، ساعد على حماية نباتات كثيرة من الانقراض. واذا عرفنا أن تحضير غرام واحد من صبغة القرمز يحتاج الى نحو 70 حشرة، وأن إنتاج غرام واحد من صبغة الأرجوان تلزمه عشرة آلاف صدفة موريكس، فإننا ندرك جدوى التوقف أحياناً عن اللجوء الى الطبيعة والاتجاه نحو المصنع.