في شهر تشرين الأول(أكتوبر) 2003، وصلت معلومات إلى الجزائر عن أسراب الجراد التي تكاثرت بشكل رهيب واكتسحت ما يقارب 300 ألف هكتار من أراضي دول الساحل، وهي موريتانيا والسنغال ومالي وتشاد، حيث تهيأت كل الظروف المناخية الملائمة لتكاثرها. فقد نزلت الأمطار الموسمية بغزارة، ونمت على أثرها الأعشاب، وهي الغذاء الرئيسي لهذه الحشرات التي تعيش بصورة دائمة في تلك المناطق وتتأثر أعدادها بالتهاطل وتوفر المراعي.
"فور وصول أولى المعطيات عن الوضعية في مناطق الساحل"، يقول سيد علي مؤمن مدير الحماية النباتية والمراقبات التقنية في وزارة الفلاحة ومسؤول البحث في المعهد الوطني للزراعة،"أرسلت الجزائر تقريراً مفصلاً إلى منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تشرح فيه الوسائل التي جندتها للتصدي لأسراب الجراد، مؤكدة على ضرورة التعاون الدولي لاحتواء الخطر القادم. ولم تكتفِ بهذا، بل أرسلت 27 فرقة مكافحة مجهزة بوسائل الكشف ورش المبيد توزعت على دول الساحل. وفعلت المغرب الأمر نفسه. آنذاك قدر المبلغ اللازم لعملية المحاربة بـ3,8 مليون دولار للفترة الممتدة بين تشرين الأول (أكتوبر) وآذار(مارس) 2004".
يتكاثر الجراد المهاجر عادة خلال فصل الصيف في دول الساحل. ومع تناقص الأعشاب، تتجمع هذه الحشرات في شكل أسراب وتسلك طريقها نحو الشمال، أي الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، لتصل مع بداية تساقط الأمطار ونمو الزرع هناك، في دورة منتظمة لم تحد عنها منذ عدة سنوات. وهذا ما أكسب تلك الدول معرفة جيدة بسلوك هذه الحشرة النهمة التي لم تتم السيطرة عليهابعد لضعف الإمكانات والغياب شبه التام للبحث العلمي، الذي يمكنه أن يوفر حلولاً نهائية للمشكلة بعيداً عن المبيدات والكيماويات، التي لها أضرارها الجانبية على البيئة والتوازن الإيكولوجي.
خليّة أزمة
تواصلت عملية المكافحة بشكل متذبذب لم يتوافق والخطة النظرية الموضوعة. ففي موريتانيا عولجت حتى كانون الأول(ديسمبر) الماضي مساحة 600 ألف هكتار، أي 50 في المئة من الأراضي المتضررة. وقبل ذلك، منشباط (فبراير) إلى آب (أغسطس) 2003، تمت معالجة 2,7 مليون هكتار في الجزائر و2,5 مليون هكتار في المغرب.
ولأن الجزائر ترئس منذ سنتين "لجنة الدول التسع" التي تأسست قبل ثلاث سنوات بقرار من الفاو، سارعت وزارة الفلاحة إلى إعداد ملف شامل في شباط (فبراير) 2004 وعرضه على الحكومة بغرض تخصيص ستة ملايين دينار (85 ألف دولار) لعملية المكافحة. وذلك للحيلولة دون تسجيل خسائر كبيرة في قطاع الزراعة قد تصل إلى 1,5 مليار دولار، بين منتوج نباتي وحيواني.
وخوفاً من تحول الوضع إلى كارثة، تشكلت على وجه السرعة "خلية أزمة" يرئسها رئيس الحكومة وتضم وزارات الفلاحة والتنمية الريفية والنقل والداخلية والمالية والدفاع الوطني، بالتعاون مع المعاهد المتخصصة في حماية النباتات.وقدمت الوكالة الفضائية الجزائرية صوراً ومعلومات هامة من القمر "سات 1" تحدد بدقة مناطق تواجد الجراد، دعمت بأخرى من وكالة الأرصاد الجوية عن اتجاه الرياح وحالة الطقس لتوجيه عمليات المكافحة.
ويقول مؤمن إن في حوزة الجزائر كماً هائلاً من المعلومات المخزنة ضمن بنك بيانات ونظام "Intranet" يصدر نشرة يومية موضوعة في تصرف المعنيين. وهذا سمح لها أيضاً بإنشاء صندوق أرشيف يتابع تحركات الجراد ويرسم لها منحنيات تصل إلى تاريخ أقدم غزو معروف عام 125 قبل الميلاد، مروراً بسنوات الخمسينات والثمانينات التي لا تُنسى، ليكون عددها نحو 15 غزواً كارثياً.
ويتوقع اجتياح الجراد 5,8 مليون هكتار خلال حملة 2004 ـ 2005، تتطلب معالجتها 10,5 مليار دينار (145 مليون دولار). وقال مؤمن ان 13 ولاية من أقصى الجنوب وشمال الصحراء معنية بالحملة، مشيراً الى أن عمليات المعالجة المقبلة ستتم على أربع جبهات بين شباط (فبراير) ونهاية أيار (مايو) 2005. وقد وضعت الدولة في تصرف الحملة 754 سيارة و113 ألف آلة رش و7,2 مليون ليتر من المبيدات فضلاً عن 48 طائرة. وتبلغ إمكانيات المعالجة 120 ألف هكتار يومياً بينما ينبغي أن تبلغ 300 ألف هكتار بالنسبة الى الحملة المقبلة.
عملية حربية
يعتبر الخبراء مكافحة أسراب الجراد بمثابة "عملية حربية" تستوجب وضع خطة حكيمة تحدد فيها الجبهات وفق الوسائل المتاحة. ولأن هذه العملية هي حالياً في مرحلتها الأولى،باعتبار أنها تدوم ثلاث سنوات حتى يتم القضاء نهائياً على الجراد وبيضه، عقد اجتماع في أيلول(سبتمبر)2004 ضم وزارات الدول المعنية، وركز على تنصيب جهاز تدخل رسمي يقسم عمله إلى مرحلتين أساسيتين، واحدة حتى خريف 2005وتستهدف دول الساحل وجنوب دول المغرب وتعالج مساحة 4,5 مليون هكتار، مستلزمة مبلغ 83 مليون دولار يساهم به برنامج الشراكة الجديدة لانماء افريقيا (NEPAD) من دون احتساب مساهمة دول المغرب فيما بينها. وقد رصدت الجزائر لهذا الشأن غلافاً مالياً قدر بخمسة ملايين دولار. أما المرحلة الثانية فستكون للربيع التالي على مساحة 3,5 مليون هكتار في دول المغرب. وما تحقق حالياً بالنسبة الىالمرحلة الأولى هو معالجة 3,5 مليون هكتار.
ويجري حالياً التركيز على دول الساحل وجنوب الجزائر والمغرب استعداداً لشهر شباط (فبراير) المقبل، حين يصبح الجراد في مرحلة الطيران وبإمكانه قطع مسافة 400 كيلومتر في اليوم.
ولأن لدى الجزائر مخزوناً معتبراً من المبيدات، التي تم إنتاجها في مؤسسة "مبيدال" الجزائرية وتستورد مادتها الأولية من الصين، طلبت منها منظمة الفاو تزويدها بمئة ألف ليتر من المبيدات يتم تعويضها لاحقاً لربح الوقت. وهذا بعدما امتنعت الدول المانحة عن مساعدة الدول المتضررة واكتفى معظمها بقطع الوعود. فما زالت أوروبا، مثلاً، تعد بتقديم 30 مليون دولار لشراء المبيدات، وهي عملية تستغرق عدة أسابيع يكون فيها بيض الجراد قد فقس، ولكل جرادة 130 بيضة،وتأكل البالغة ضعفي وزنها (2 غرام).
يقول سيد علي مؤمن: "كل يوم يمر يزيد فيه حجم التقديرات للمساعدات المنتظرة. ففي شباط (فبراير) 2004 كانت 9 ملايين دولار (5 ملايين من الفاو)، وقفزت في أيلول (سبتمبر) إلى 100 مليون دولار، وسيتضاعف الرقم مع مرور الوقت إذا ما بقيت دول الشمال تدير ظهرها وتغض طرفها وتماطل في تنفيذ وعودها".
الضيف الثقيل
هذا أسوأ اجتياح للجراد في غرب افريقيا على مدار أكثر من عشر سنين. حتى بداية أيلول(سبتمبر) 2004، بلغت المساحة المتضررة التي تم علاجها في الجزائر، خصوصاً الجنوب، 24 ألف هكتار. أما في بلدان الساحل فبلغت 3,7 مليون هكتار لم ينقذ منها سوى 300 ألف هكتار حسبما ذكرت الفاو. وكلما زادت المساحة المتضررة في الساحل انعكس ذلك سلباً على دول المغرب. وهذا ما دعا الجزائر إلى تكوين ملف داخلي خاص بها وطرحه على الحكومة في أيلول (سبتمبر) الماضي، لأن الوضع العام في دول الساحل ينذر بقدوم أسراب تفوق كل الاحتمالات. ويركز الملف على ضرورة تكثيف التدخل الميداني ليصبح 300 ألف هكتار في اليوم بدلاً من 120 ألفاً، وبذلك يمكن إنقاذ مساحة 4,5 مليون هكتار مهددة، تقدر خسائرها بعشرة مليارات دينار (140 مليون دولار). كما يركز على تكثيف التدريب الدائم للمرشدين الذين يعملون ميدانياً وهم في احتكاك دائم مع الفلاحين، وكذلك المتطوعين الذين ازداد عددهم كثيراً بفضل الوعي بأن الجراد هو قضية الجميع،بحيث يقوم كل مرشد بتدريب مرشدين آخرين يتوزعون على كل الولايات المعنية ليصل عددهم إلى 120 ألف شخص داخل هذا الجهاز.
الجراد نوعان، الطائر والزاحف (أو "المراد" كما يسمى في الجزائر). وهو يختار المناطق الخصبة والأودية ليضع بيضه، الذي إن لم يفقس خلال شهرين يموت.فبعد أن يتكاثر صيفاًفي دول الساحل بفضل توفر الأخضر، يستعد للعودة إلى دول المغرب ربيعاً مستفيداً من بعض التضاريس، كالأطلس الصحراوي، واتجاه الرياح وارتفاع درجات الحرارة نسبياً.
هذا الضيف غير المرغوب فيه قادم مع الأشهر المقبلة كظاهرة أو كارثة طبيعية، ينزل على الأخضر واليابس ولا يبقي ولا يذر... حتى شُبِّه المفسدون بالجراد.
كادر
معركة على الجراد في أوستراليا
بدأ مكافحو الجراد الاوستراليون السيطرة على الأوضاع في إحدى أكبر الهجمات خلال عقود. وقال مفوض المكافحة في ولاية نيو ساوث ويلز ان الجراد "يتحرك على حواف المحاصيل، الا اننا نوجه اليه ضربات قبل ان يتمكن من الحاق الضرر بها"، مضيفاً أن جهود الرش الأرضية والجوية نجحت في قتل أعداد كبيرة من الجراد قبل ان تستجمع الحشرات قوتها للطيران.
وتكاثر الجراد في رقعة تمتد ألف كيلومتر بعرض 400 كيلومتر تقريباً في وسط نيو ساوث ويلز. وتدور المعركة الكبرى حالياً في الجزء الغربي من المنطقة المنكوبة، بعدما نجح مكافحو الجراد في السيطرة على المناطق الشمالية التي تكاثرت فيها الحشرات أولاً. وتستخدم الطائرات في رش المبيدات.