الامارات العربية المتحدة بلد سريع النمو شهد فترة طويلة من النمو الاقتصادي الاستثنائي. وهذا أسفر عن تزايد وتيرة استهلاك موارد طبيعية مثل الطاقة والغذاء والألياف والأخشاب التي يتم الحصول عليها من داخل حدود البلاد وخارجها. وبسبب الأحوال المناخية الحارة والجافة في الامارات، يتم استهلاك مقدار كبير من الطاقة لتبريد الأبنية وتحلية مياه البحر. وقد أسفرت هذه الديناميات، مقترنة باستهلاك غير كفوء للموارد الطبيعية، عن ارتفاع البصمة البيئية للفرد منذ العام 2006. ولدى الامارات ثالث أعلى بصمة بيئية للفرد في العالم، بعد قطر والكويت، وفق «تقرير الكوكب الحي» لسنة 2012 وتقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية لسنة 2012 حول البصمة البيئية وخيارات البقاء في البلدان العربية.
نحو 71 في المئة من البصمة البيئية للامارات سببه استهلاك بضائع وخدمات تطلق انبعاثات كربونية كثيفة، خصوصاً الطاقة. ولأن الامارات تعتمد بشكل تام تقريباً على الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء والمياه المحلاة، فإن أمن الطاقة والمياه يشكل هماً دائماً، نظراً لتفوق الطلب على العرض. ويزداد الطلب على الطاقة أكثر من الضعفين أثناء الصيف، وذلك ناتج أساساً من الحاجة لتبريد الأبنية، ما يؤدي الى نواقص في الغاز. ولتلبية الطلب على الطاقة الذي يبلغ الذروة أثناء الصيف، تحرق الامارات النفط الخام ووقود الديزل لتوليد الكهرباء من أجل الاستهلاك المحلي بأسعار مدعومة، وهذا يخفض كمية النفط الذي يصدر وإيراداته.
وهكذا، فان أمن الطاقة، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، والبيئة، تعتبر جميعاً الآن قوى دافعة رئيسية لصنع السياسة في الامارات. وهذا يبدو جلياً في رؤية دولة الامارات 2021، واستراتيجية الطاقة المتكاملة في دبي 2030، وخطة البيئة في دبي 2030، ومبادرة الاقتصاد الأخضر. القصد من هذه الاستراتيجيات المختلفة تعزيز أجندة نمو أخضر لتنويع وبناء اقتصاد قائم على المعرفة، حيث يتم تطوير مهارات وقدرات ووظائف كافية لدعم النمو في قطاعات خضراء جديدة مثل الطاقة النظيفة. وإضافة الى ذلك، تسعى الامارات الى حماية الموارد الطبيعية لضمان تحقيق أهـداف النمو في البلاد من دون الاستخفاف بالحدود البيئية.
نحو سياسة قائمة على العلم
في العام 2007، اتخذت الحكومة اجراءات هامة لمعالجة البصمة البيئية في الامارات، ما جعلها ثالث بلد في العالم يفعل ذلك بعد اليابان وسويسرا. وهكذا، ولدت مبادرة البصمة البيئية للامارات العربية المتحدة، من أجل أبحاث معمقة لفهم وإدارة البصمة البيئية في البلاد وتسهيل تطوير سياسات قائمة على العلم. وتم تأسيس شراكة فريدة بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني تجمع وزارة البيئة والمياه، وهيئة البيئة ـ أبوظبي ممثلة بهيئتها المساعدة مبادرة أبوظبي العالمية للبيانات البيئية، وجمعية الامارات للحياة الفطرية بالارتباط مع الصندوق العالمي لحماية الطبيعة، وشبكة البصمة البيئية العالمية، وهيئة الامارات للمواصفات والمقاييس. وتم تأسيس لجنة توجيهية اتحادية تضم جهات معنية رفيعة المستوى من قطاعي الطاقة والمياه لتقديم التوجيه الاستراتيجي. ومن خلال العمل معاً لفهم أنماط استهلاك الموارد الطبيعية في الامارات، أعطت مبادرة البصمة البيئية أولوية لنشاطات تسعى الى تحفيز تغيير في الوعي المجتمعي وتطوير السياسات على حد سواء.
خلال الفترة 2007 ـ 2008، أنجزت مبادرة البصمة البيئية التثبت من صحة بيانات البصمة البيئية للإمارات، مستنتجة أنها تقدير صحيح لأنماط الاستهلاك في البلاد. ومن 2008 الى 2009، تم تحديد القوى الدافعة الرئيسية للبصمة البيئية، التي بينت أن المنازل في الامارات مسؤولة عن 57 في المئة من الاستهلاك الوطني، تليها الأعمال والصناعة (30%) والحكومة (12%). وقد وجهت هذه النتائج تطوير حملة لدعم أنماط المعيشة المستدامة عُرفت بـ«أبطال الامارات العربية المتحدة»، بهدف رفع الوعي حول البصمة البيئية وتغير المناخ، وما يستطيع المستهلكون أن يفعلوا لتخفيف آثارهما.
وبما أن البصمة البيئية هي مؤشر رجعي الأثر، هناك حاجة لتطوير أداة نمذجة قائمة على العلم ووثيقة الصلة بالسياسات. والهدف هو التنبؤ بفعالية الاستراتيجيات المستخدمة لتخفيض البصمة البيئية والانبعاثات الكربونية في الامارات، خصوصاً تلك التي يولدها قطاعا الطاقة والمياه. ويتم استهداف قطاع الطاقة كأولوية استراتيجية لأنه يساهم الى أبعد الحدود في البصمة الكربونية.
خلال الفترة 2009 ـ 2010، تشاركت مبادرة البصمة البيئية مع خبراء أكاديميين في معهد مصدر للعلوم والتكنولوجيا لتطوير نموذج للبصمة البيئية قائم على العلم من شأنه أن يعمل كأداة لدعم القرارات. هذا النموذج، الذي يستهدف قطاعي الكهرباء والمياه، يعمل كأداة تحليلية لتقييم تأثير الخيارات السياسية على انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في امارة أبوظبي وعلى البصمة البيئية ككل في الامارات حتى سنة 2030. وقد أشارت نتائج النمذجة الى أن مجموعة الاجراءات السياسية قد تساعد بحلول سنة 2030 في تخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في إمارة أبوظبي بنسبة تصل الى 40 في المئة، وتقليص البصمة البيئية للفرد في الامارات بمقدار هكتار عالمي. وهذا يتطلب أهدافاً أكثر طموحاً تتعلق بالطاقة المتجددة، وقوانين بناء أكثر تشدداً، ومقاييس كفاءة الطاقة الخاصة بالأدوات المنزلية.
وبناء على هذا البحث، سوف تستمر مبادرة البصمة البيئية في تطوير سياسات قائمة على العلم لتخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في الامارات والبصمة البيئية للفرد خلال السنوات الثلاث المقبلة، من خلال تبني نهج ذي ثلاثة مسارات: المسار الأول يركز على تطوير دورة لتوضيح السياسات بغية وضع مقياس إضاءة للقطاع المنزلي. ويركز المسار الثاني على إجراء تقييم اجتماعي ـ اقتصادي للسياسات المبينة في نموذج سيناريو البصمة البيئية. أما المسار الثالث فيركز على تحسين دقة البصمة البيئية في الامارات قبل نشر كل تقرير من تقارير «الكوكب الحي»، وتبليغ النتائج الى صانعي السياسات. وهذا يشمل تحديد مصادر البيانات لدى السلطات المعنية وبناء القدرة على خلق المعرفة وتقاسمها.
مقاييس كفاءة الاضاءة
ركزت الردود المستقاة من صانعي سياسات رفيعي المستوى على الحاجة الى تطوير دورة مقاييس كفاءة الطاقة، للمساعدة في تخفيض البصمة البيئية ككل في الامارات والعمل كخطة لتطوير السياسة في المستقبل. ويبدو أن لمقاييس كفاءة الطاقة قدرة كبيرة على تخفيف انبعاثات الكربون بتكاليف منخفضة.
وبحسب الموقـع الجغرافي، تستأثـر الإضاءة بنحو 20 في المئة من الكهرباء التي يستهلكها القطاع السكني. لذلك، يتم التركـيز على إرساء إضاءة كفـوءة في استهلاك الطاقة وإجراءات السياسة المرتبطة بها. إن مقاييس كفـاءة طاقة الإضاءة الخاصة بالقطاع السكـني تلائم هذه المنطقة بشكل خاص، إذ إن الإضاءة هي أكبر مستهلك للكهرباء في منازل الامـارات بعد التبريد. وتـؤثر الإضـاءة أيضاً على حمل التبريد لأنها تولد حرارة مهدورة. ولأن استهلاك الكهرباء في المنازل يستأثر بنحو 57 في المئة من البصمة البيئية للامارات، فقد تم تحديد القطاع السكني كهدف رئيسي لتحسين كفاءة الطاقة وتخفيض البصمة.
سوف تجري هيئة الامارات للمواصفات والمقاييس أبحاثاً لتطوير مقياس لكفاءة الطاقة قائم على العلم، ونظام بطاقات بيانية خاص بالاضاءة على المستوى المنزلي في الامارات. وسوف تشمل الأبحاث عرضاً لأفضل الممارسات الدولية، وتقييماً شاملاً لاضاءة الأماكن السكنية في الامارات، ووضع مقياس للاضاءة في الامارات مبني على إمكاناتها الاقتصادية والتقنية، وتقييم أثر الاستدامة، وتحديد إطار سياسي وتنظيمي لمقياس الاضاءة. وسوف يستكمل ذلك بمشاركة شاملة للجهات المعنية طوال العملية لضمان البيانات والارادة السياسية.
أما في ما يتعلـق بمسـار التقييم الاجتمـاعـي ـ الاقتصادي لسياسات الطاقة والمياه في الامارات، فقـد أُجريت عملية تشاورية مع جهات معنية مختلفة عام 2010 للحصول على معطيات حول مدى ملاءمة نمذجة سيناريو البصمة البيئية وموثوقيتها وقوتها. وأشارت المعطيات الى أن نموذج سيناريو البصمة البيئية الحالي قد يصبح مناسباً أكثر لصانعي القرار إذا أضيفت قدرات لتحديد التداعيات الاجتماعية ـ الاقتصادية لسيناريوهات السياسات المختلفة، ولتوسيع النموذج الى مستوى اتحادي، فضلاً عن تحليل على مستوى كل إمارة.
يهدف هذا المسار البحثي إلى إجراء تقييم اجتماعي ـ اقتصادي لسيناريوهات سياسات الطاقة والمياه، المنمذجة من أجل تسهيل تصميم سياسات أكثر فعالية وجعلها أولوية. وسوف يقيس التقييم الاجتماعي ـ الاقتصادي تأثيرات السياسات على نمو الناتج المحلي الاجمالي، والتنوع الاقتصادي، وخلق وظائف خضراء، وأمن الطاقة والمياه، وقدرة الإمارات على المنافسة، وعائدات صادراتها، والاستثمارات في الطاقة المتجددة.
المعرفة المكتسبة من مبادرة البصمة البيئيـة أفادت الإمارات، من خلال خلق فرص للحكومـة والمقيمين لانتهاج سلوك تنموي مستدام أكثر فعاليـة. إن المبادرات التي تعـزز التنميـة المستدامـة وتسهـل الشراكـات بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني، هي ضرورية لإحــداث التغيـير المطلـوب في الامـارات والمنطقة العربيـة والعالـم لتحقيق التحـول الى مستقبـل مستـدام.
ليلى عبداللطيف هي مديرة مشروع مبادرة البصمة البيئية في الامارات، وتنزيد علم هي مديرة السياسات في جمعية الإمارات للحياة الفطرية.