التسرب النفطي الهائل الذي نجم عن القصف الاسرائيلي لمحطة الجية الحرارية في لبنان لم يعالج بالسرعة والتنسيق اللازمين، وما زالت أعمال التنظيف متباطئة وتفتقر الى الكفاءة والتنظيم... ربما بانتظار قيام البحر بتنظيف ذاته خلال أشهر الشتاء
خلال الأيام الأولى للعدوان على لبنان، قصف الطيران الإسرائيلي خزانات الوقود في محطة الجية الحرارية جنوب العاصمة بيروت، مما أدى الى أسوأ تسرب نفطي في تاريخ لبنان، بل في تاريخ الحوض الشرقي للبحر المتوسط. فكمية الفيول اويل التي تسربت هي من النوع الثقيل، وقدرت بنحو 15 ألف طن انتشرت على طول 150 كيلومتراً من الشواطئ اللبنانية شمال الجية وصولاً الى بعض الشواطئ السورية.
بعد أكثر من شهر على انتهاء العدوان الإسرائيلي، لم تكن الوزارات المعنية، خصوصاً البيئة والأشغال العامة والنقل، قامت بأي عمليات جادة لتنظيف البحر والشواطئ، على الرغم من اعداد تقارير مفصلة لخطة عمل بالتعاون بين وزارة البيئة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. لكن وحدات من البحرية في الجيش اللبناني وفرق الإنقاذ البحري في الدفاع المدني قامت بشفط كميات كبيرة من النفط الذي دخل الموانئ وبقي فيها. فتم تنظيف ميناء جبيل، وما زال العمل جارياً في ميناء الدالية في رأس بيروت. وتنظيف مياه الموانئ والخلجان من النفط أساسي قبل البدء بتنظيف الشواطئ، وإلا فكميات النفط المتجمعة فيها قد تتسبب، إذا خرجت منها، في اعادة تلويث الشواطئ بعد تنظيفها. وهذا ما حصل مثلاً في 16 أيلول (سبتمبر) على شاطئ الرملة البيضاء.
الجهد الآخر كان من قبل بعض الجمعيات البيئية التي سارعت للعمل على شواطئ الرملة البيضاء وجبيل، خصوصاً الخط الأخضر وبيبلوس ايكولوجيا ونقابة الغواصين المحترفين. لكن عمل المنظمات الأهلية، مهما كان متطوعوها مندفعين وراغبين في التنظيف وإصلاح الوضع، لا يمكن أن ينجح في غياب التنسيق في ما بينها ومع الجهات الرسمية المعنية، وفق خطة عمل منهجية وباستخدام الأدوات والتقنيات المتاحة بشكل صحيح.
هبة من جمعية ''بحر لبنان'' لتنظيف المياه والشواطئ
في 6 أيلول (سبتمبر) أصدر رئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة قراراً قبل بموجبه هبة عينية من جمعية ''بحر لبنان''، هي عبارة عن تقديم الدعم المالي والفني والبشري للقيام بمهمات تنظيف كل الشواطئ والمياه البحرية، بالتنسيق مع وزارة البيئة. وأعلنت الجمعية، التي أسسها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أنه في اطار تعاونها مع وزارة البيئة الفرنسية ومؤسسات دولية تم الاتفاق على تزويدها بالمعدات اللازمة.
أوكلت الجمعية الى محمد السارجي، نقيب الغواصين المحترفين في لبنان، مهمة تنظيف قاع البحرفي المواقع الأربعة التي كانت قد حددتها سابقاً نتيجة الغوص الاستكشافي والتوثيق الفوتوغرافي في أكثر من عشر مناطق، من صيدا جنوباً الى طرابلس شمالاً، وهي وادي الزينة والجية والرملة البيضاء وجبيل. وقال السارجي لـ''البيئة والتنمية'': ''جندتُ فريقاً من 50 غواصاً محترفاً للمشاركة في هذه العملية، إضافة الى عشرات الصيادين. وبدأنا العمل فور قبول الهبة، لأننا كنا في سباق مع الوقت والطبيعة''. ولفت السارجي الى أن قسماً من البقايا النفطية المترسبة في قاع البحر كان أكثر صلابة من الآخر، وهذا يعود الى احتراق النفط على سطح المياه قبل غرقه. فالمواد التي احترقت غرقت وأضحت صلبة وجافة، والمواد التي غرقت من دون أن تحترق بقيت لزجة بعض الشيء. ولأن عملية التسرب النفطي حصلت في مرحلتين نتيجة القصف الإسرائيلي للخزانات في 13 و15 تموز (يوليو)، فقد غطت طبقة من الرمال الطبقة النفطية الأولى، ومن ثم غطتها طبقة نفطية ثانية نتيجة التسرب الثاني.
كان كل فريق يضم ثلاثة غواصين، أحدهم يجمع البقايا النفطية، والثاني يسهل له عملية وضعها داخل كيس خاص يفتحه بمحاذاته كي لا يقع شيء منها على القاع، أما الغواص الثالث فيقوم برفع الكيس الممتلئ الى سطح الماء ويزود رفيقيه بأكياس جديدة. وشرح السارجي آلية انتشال النفط: ''بالنسبة الى النفط الصلب، كنا نقوم بسلخه من القاع، ثم ننتشله قطعاً ونضعه داخل الأكياس ونرفعه الى خزانات على ظهر المركب. أما البقايا النفطية التي لم تحترق فنقوم بلفّها كسجادة ونقطّعها لوضعها داخل الأكياس. وعندما يمتلئ الخزان الموجود على ظهر المركب، ندخل المرفأ حيث ننقل البقايا النفطية المنتشلة الى خزانات على الشاطئ".
وقد شاركت خمسة مراكب في عملية التنظيف في الجية، على متنها 36 غواصاً قاموا في غضون أسبوعين بسحب أكثر من 70 طناً من قاع البحر، بينما قام فريق جبيل المؤلف من 14 غواصاً بسحب 60 طناً. وأكدت جمعية ''بحر لبنان'' أنها تخزن كل المستوعبات التي تحوي بقايا النفط المستخرجة من القاع في مستودعات خاصة بالجمعية لتتم معالجتها بالطرق البيئية الأنسب.
الخبير الفرنسي برنار فيشو، الذي أوفدته الحكومة الفرنسية لمساعدة جمعية ''بحر لبنان'' في تقييم الوضع وتحديد آليات وأولويات العمل، قال بعد زيارات ميدانية الى شواطئ منكوبة: ''فوجئت بتباطؤ الجهات الرسمية المعنية في اتخاذ قرار للتحرك سريعاً من أجل التخلص من التلوث، فالكمية الموجودة من المفترض أن تكون قد أزيلت بالكامل خلال الوقت الذي مر حتى الآن''. ولفت فيشو الى مشكلة عدم توافر معدات امتصاص الفيول، وهي مواد تشبه الاسفنج تستخدم لحصر النفط في البحر أو تمد على الشاطئ، فيما أشار السارجي الى أن "الحكومة تسلمت نحو 1500 متر من هذه المواد".
استهجان جمعيات بيئية
التقصير الرسمي في معالجة التلوث النفطي، وتسليم زمام الأمور الى جمعية واحدة هي ''بحر لبنان''، كانا محور لقاء دعت اليه 13 جمعية بيئية فاعلة في منتصف أيلول (سبتمبر). وقد استهجنت هذه الجمعيات ضعف الأداء الحكومي بمواجهة التلوث النفطي: ''فبعد مرور أكثر من شهر على وقف العدوان الاسرائيلي وأكثر من ثمانية أسابيع على حدوث الكارثة النفطية، وعلى رغم ورود الكثير من المساعدات التقنية والمادية من العديد من الدول والجمعيات المحلية والعالمية، تبقى الجهود الحكومية دون المستوى والحجم المطلوبين في مواجهة أزمة من هذا النوع والحجم".
وتساءلت الجمعيات: ''لماذا لم تكن هناك خطة طوارئ لمواجهة هذا النوع من الكوارث، خصوصاً مع وجود عشرات الخزانات النفطية على طول الشاطئ؟ أين هي لجنة الطوارئ الوطنية التي أنشئت منذ العام 1998 وتلقت العديد من الدورات التدريبية؟ لماذا لم يتم الاعلان عن خطة للمعالجة الشاملة للآثار القريبة والبعيدة المدى؟ ولماذا لم يتم تنظيف الأماكن ذات الأولوية بعد، كمرفأ الدالية في رأس بيروت الذي يحتوي على أكثر من مئة طن من الفيول مما يؤثر على معيشة أكثر من 100 صياد''؟
أما في ما يتعلق بقرار قبول هبة جمعية ''بحر لبنان'' وتكليفها مهمة تنظيف الشواطئ والمياه البحرية، فتساءلت الجمعيات في البيان الذي أصدرته عن الحجم الحقيقي لهذه الهبة، وهل هي كافية في ظل الأرقام المتداولة والتي تبلغ 150 مليون دولار وفق التقديرات الأولية لوزارة البيئة. وطلبت ايضاح طريقة المعالجة التي ستتبعها الجمعية وكيف سيتم التعاطي معها إذا كانت العمليات دون المستوى المطلوب، معتبرة ''أن هناك تناقضاً وغموضاً حول مهام المعالجة، فتارة هي معالجة كاملة شاملة وطوراً تقتصر على التخزين".
كما تساءلت الجمعيات البيئية عن كيفية تعامل الحكومة مع أية مساعدات أو هبات تأتي إليها نتيجة مؤتمري أثيناواستوكهولم لمواجهة الكارثة النفطية، في ظل وجود ''هبة شاملة'' كهذه. وأضافت: ''في حال طلب لبنان تعويضات رسمية، ما هي التداعيات القانونية لقرار مجلس الوزراء بتسليم أعمال التنظيف لجمعية غير مؤهلة للقيام بأعمال كهذه؟'' واعتبرت الجمعيات أن ''القرار بتسليم أية جهة عملية من هذا النوع من دون الرجوع إلى خبرتها ـ وهي لا تملكها في هذه الحالة ـ هو استهتار بالبيئة وبالمواطن وبحجم الكارثة التي يقول الخبراء ان أضرارها الحالية والمستقبلية المباشرة وغير المباشرة تفوق المليار دولار. وهذا سوف ينعكس بالتأكيد على أية مطالبات بالتعويض يقوم بها لبنان تجاه الجهات المسؤولة عن التسرب".
وعلق أحد قدامى العاملين في شؤون البيئة على هذا النزاع: ''مبادرة الهيئات الأهلية للمساعدة في معالجة التلوث ممتازة، وخاصة عمليات تنظيف القاع التي نفذتها جمعية ''بحر لبنان''. ولكن من المعيب الخلاف حول منيقوم بالعمل. المطلوب قيادة قوية في وزارة البيئة تنسق عمل المنظمات الدولية والهيئات الأهلية والشركات المختصة، ضمن خطة واضحة".
ونبه أحد مسؤولي المنظمات الدولية في حديث خاص مع ''البيئة والتنمية'' إلى أن غياب المرجع المحدد في الادارة اللبنانية لقيادة عملية التنظيف قد يضيّع على لبنان فرصة الاستفادة من المساعدات التي خصصتها المنظمات والدول.