التدهور البيئي من أهمالمشاكل التي تواجه القصور والمدن القديمة في سلسلة جبل نفوسة الليبية. وهو يهدد بفقدان موروث ثقافي ذي أهمية تاريخية واقتصادية واجتماعية. فالتطور الحضري للمدن وتغير نمط العيش فيها,أدى بالسكان إلى هجرة نواحيها القديمة والانتقال إلى الأحياء السكنية الحديثة. وبذلكأصبحت المناطق الأثرية المهجورة عرضة للتدهور البيئي باختلاف صوره، اذ تحولت مبانيها الى أماكنلتصريف النفايات وتربيةالحيوانات وتخزين الأعلاف وإسكان العمالة الوافدة.
وقد قامت جمعية أصدقاء البيئة والتراث بحملات تطوعية لتنظيف المنطقة الأثرية في مدينة نالوت، استهدفت جمع ونقلالنفايات الصلبة والتخلص منها بأسلوب علمي,وإجراء الصيانات اللازمة للمباني بالموارد الذاتية. وشاركت في هذهالحملات التطوعية جميع فئات المجتمع والجمعيات الأهلية في المدينة، انطلاقاً من مبدأأن حماية الموروث الثقافي مسؤولية كل مواطن ومواطنـة.
ان طبيعة المناطق الواقعة في الجبل الغربي من الجماهيريةالليبية أعطت سكانها القدامى نمطاً معيناً من الحياة, فقد اعتمدوا على مياهالأمطار، مما جعلهم يتنقلون من واد الى آخر طلباً للمرعى والماء. كما تميزت تلك البقاع بوجودالكثير من الحصون التي يطلق عليها الأهالي اسم "القصور". وفي المنطقةالواقعة بين غريان ووازن ما يزيد عن 50 قصراً، يعود معظمها الى الفترة العربيةالإسلامية المبكرة وهي تختلف في أحجامها من قصر الى آخر. وقد استعملت كحصونلصد الغارات، كما استعملها الأهالي كأهراء لتخزين الغلال وزيت الزيتون الذي اشتهرت به المنطقة مند القدم. واستغلت بعض ساحات تلك القصورلتكون أسواقاً عامة غلب عليها مبدأ المقايضة.
ولعل أهم تلك القصور قصر الحاج وقصر كاباو وقصر أولادمحمود وقصر نالوت وقصر وازن. وتتميز هذه القصور بأنها طراز معماري محلى اقتضتهالضرورة الحياتية لسكان المنطقة.
قصـر الناس
بني قصر نالوت علـى حافة الجبل الذي يرتفع حوالى630متراً عن مستوى سطح البحر. وهو يسيطر على منافذ المدينة الجنوبيةوالشمالية والشرقية. وموقعه الاستراتيجي يدل على أنه بنى لغرض دفاعي، ويظهر ذلكأيضاً من ارتفاع السور الخارجي. ومظهره العام يعطي انطباعاً بأن تشييده كان لغرضإيجاد مخازن الغلال وزيت الزيتون. وهو يختلف عن قصر الحاج في استغلالالساحة الوسطى لتكون مباني ترتفع إلى خمس أو ست طبقات، وبذلك ازدادت حجراته الى ما يقرب 400حجرة، يبلغ ارتفاع الواحدة متراً وعرضها1.5 متر. ويتميز البناء بعدموجود سلم متكامل للصعود الى الحجرات العليا، وانما يصعد إليها تسلقاً على أوتاد خشبيةمثبتة في الجدران.
لا دليل على تاريخ إنشاء هذا القصر، إذ لا يوجد أي نقش تأسيسي، كما لم يذكره أي من الكتّاب والرحالة. ولكن يبدو أنه بني قبل القرن السابع الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي). ويذكر الدكتور عبدالرحمن أيوب أن "هذا الصنف هو أقدم الأصناف من القصور، نظراً لتماثل تهيئتــه مع تهيئة الدور الكهفية (Troglodytes). ويتكون القصر في هذهالحالة من مجموعة من الغرف ذات السقف المقـبب المنحوتة في خدود المرتفعات الجبلية،والتي تأخذ شكلاً مستطيلاً في تجاورها الواحـدةتلو الأخرى". القصور المماثلة في ليبيا وتونس، عبر الحدود في منطقة الجبل الغربي، استغلت للسكن والدفاع والتخزين.
يمتاز قصر نالوت بطابع معماري ناتج عن حضارة خاصة تكونت وتشكلت بفعلتداخل وتفاعل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والروحية. وهو عبارة عن مبنى ضخميأخذ شكل المستطيل غير المنتظم، تبلغ أطوال أضلاعه الطويلة و33.5 متر شرقاً, و36.5 متر غرباً، أما أطوال أضلاعه القصيرةفهي24.5متراً شمالاً,و22متراً جنوباً. ويصل ارتفاع السور الخارجي إلى10.3 أمتار، وارتفاع أعلىنقطة عن أرضية القصر12.7متراً, ويبلغ متوسط حجم حجرات التخزين12.6 متراً مكعباً، يتم تقسيمها أحياناً إلى ثلاثة أجزاء تفصلبصفائح حجرية لحفظ القمح والشعير والتين المجفف وخوابي الفخار لحفظ الزيت والتيتصل سعتها التخزينية إلى300ليتر.
لعل من المفيد تناول حركة النشاط السكاني في مواقع تلك القصور، وذلك لمعرفة منافعها والأغراض التي تؤديها. فقد كانت الحياةالاجتماعية غير مستقرة بسبب اعتمادها الرئيسي على مياه الأمطار، مما جعل السكان فيعمل موسمي معتاد يدور مع دوران فصول السنة.
يتحرك سكان القرى والبوادي عندهطول الأمطار في فصل الخريف بنشاط لحرث الشعير ليلاً ونهاراً، لكي يزرع الواحد منهمكمية أكبر من جاره. وإذا تأخر موسم هطول الأمطار يتحولون الى زراعة القمح، وهكذا، إلىأن ينتهي فصل الحراثة. "ارتفع المحراث!" هكذا يقولون،فيعودون إلى قراهم استعداداً لجني حبوبالزيتون، وهو عمل الذي يستمر كامل فصل الشتاء.
ومع حلول الربيع يستعد معظم الناس بتفقد بيوت الشعر واستكمال لوازمها ونواقصها، ثم تؤخذ على ظهور الإبل،ويخرجون بها مسافات بعيدة، فينتجعون حيث تبقى أغنامهم طوال الربيع.ويكثر في هذا الفصل اللبن والزبدة والسمنوالجبنة الطرية والجبنة المجففة (لقط) التي يمكن تخزينهالفترةطويلة. وينتهي هذا الفصل بجز الأغنام والاستعداد للعودة إلى القرية.
يأخذ السكان الصوف والسمن والجبنة إلى قصر القرية لتخزينها. وتنقل بيوت الشعر الى مزارع القمحوالشعير. ويبدأ موسم الحصاد والدراسة وتعبئة المحصول على ظهور الإبل، ويعود الجميع الىالقرية، حيث يتم تخزين المحصول في القصر. وفي الوقت نفسه تكون ثمـار التين بدأت فيالنضوج، وبذلك تبدأ رحلة أخرى الى مشارف القرية (سهل الجفارة والظاهر) حيث مزارع التين. وتستغرق هذه الرحلة فصل الصيف كاملاً، حيث تجمع كميات كبيرة منالتين ويتم تجفيفها ونقلها إلى القصر لتخزينها واستهلاكها خلال بقية العام. ويتبع ذلكجني التمور من حقول النخيل وتجفيفها وتخزينها كذلك.
من خلالاستعراض دورة النشاط السكاني خلال فصول السنة، نتبين أن حالة عدم الاستقرار للسكانأوجدت الحاجة الماسة الى مخزن رئيسي للقرية، بحيث تمتلك كل أسرة غرفة فيه لغرض تخزينمنتجاتها خلال السنة. والقصر هو المكان الاستراتيجي الوحيد، نظراً لميحويه من طاقة تخزينية. ويقتضي ان يكون موقعه على قمة الجبل، بحيثلا يمكن الوصول إليه بسهولة في حالة الإغارة عليه. ويعمل في القصر حارس دائم طوالالسنة.
المشروع الأهلي التطوعي لصيانة وترميمالقصر
ظهرت الحاجة الى ترميم قصر نالـوت والمدينة القديمة عقبهجـرة السكان. فقد رغب المواطنون في الاحتفاظ بهذا الأثر المهم، الذي يرون فيه تجسيداً لتاريخهم ورمزاً لتكاتفهموكفاحهم المستمر من أجل العيش ومجابهة ضواري الطبيعة. ومشروع الترميم، الذي قامت به جمعية أصدقاء البيئة والتراث، حرص على استمرارية هذه المعايير القائمة على العمل الجماعي. وبدأ تنفيذه عام 1996، بخطة عمل خمسية شارك الأهالي في إعدادها وتطوعوا في تنفيذها.
استهدفت المرحلة الأولى الأعمال الأساسية لإعادة المواقع كما كان، وإن أنقاضاً. فتم تنظيف المدينة القديمة وإزالة الزرائب منها. ونظفت أنحاء القصر من الأوساخ وبقايا الجبس، وصنفت المقتنيات الباقية في الحجرات. وجمعت الأبواب الخشبية المصنوعة من جذوع النخيل، والحجارة المسطحة من بقايا الانهيارات، لإعادة استخدامها. وأجريت أعمال الصيانة، خصوصاً في الجزء الأوسط الأكثر تصدعاًوتضرراً
أما المرحلة الثانية، لترميم الغرف والحجرات والممرات الداخلية في القصر، فاقتضت استخدام عمالة فنية تتميز بالخبرة في البناء،وتدريب بعض الشباب على القيام بهذا الدور في المستقبل. وقد تم تنظيف الغرف من الأتربة والأوساخ. وأعيد تركيب الأبواب بعد صيانتها. كما أعيد تثبيت أغصان الزيتون كسلالم في الواجهات الداخلية.وأرجعت المقتنيات الأساسية إلى بعض الغرف، ولا سيما خوابي الزيت.
وشملت المرحلة الثالثة صيانة بعض المساكن المحيطة بالقصر، وتبييض المساجد القديمة، وإعادة فتح الأزقة،وإزالة زرائب الحيوانات, وإخلاء المساكن من العمالة الوافدة، وإلغاء مواسير المياه المسربة للمياه, وترميم المسارات المائية الخاصة بتصريفمياه الأمطار.
أكثر من 400 متطوع من الأهالي عملوا في صيانة وترميم قصر نالوت والمدينة القديمة. وما زال هذا المشروع الأهلي جارياً، يعتمد على ما يقدمه المواطنون من تبرعات مادية، سواء بأموالهم أو بآلياتهم أو بعملهم التطوعي المباشر. وهو نموذج حي لما يستطيعه العمل الجماعي المنظم، المنطلق من محبة الناس وإصرارهم على صون التراث.