لا يشعر بالألم ومضاعفاته غير الذي يتألم ويعانيه فعلاً. ولكن لا يحق لمن لا يتألم ولا يعاني، خصوصاً إذا كان مسؤولاً، أن يهمل الضحايا ويتجاهل معاناتهم، بل هو يقترف جرماً في هذه الحال.
للأسف، هذا ما حصل ويحصل لضحايا الإشعاع في العراق منذ خمسة عشر عاماً، ليس فقط من قبل نظام صدام حسين وحكام العراق الجديد فحسب، بل حتى من قبل مسؤولين عن العديد من الجهات الرسمية المعنية في الخليج. لقد تجاهلوا تحذيرات العلماء والباحثين، من أجانب وعراقيين وعرب عموماً ومئات التقارير والأبحاث العلمية التي نشرت وحذرت من مغبة تجاهل الكارثة البيئية والصحية التي سببتها قذائف اليورانيوم المستنفد (DU) التي استخدمتها القوات الأميركية والبريطانية وجربتها لأول مرة في ميادين القتال "الحية" عام 1991 ضد القوات العراقية.
هذه القذائف مصنعة من النفايات النووية، مشعة وسامة، ولم يقتصر ضررها على القوات العراقية وإنما طال قوات التحالف التي شاركت في حرب تحرير الكويت، وضمنها القوات التي استخدمت تلك الذخائر. فبلغ عدد العسكريين الغربيين المصابين بـ"أعراض حرب الخليج"، من جنودها وضباطها المسجلين رسمياً، أكثر من 230 ألفاً، نتيجة استنشاقهم جزيئات أوكسيد اليورانيوم المتطايرة في الجو، والتي تقدر بمئات بل ألوف المليارات، إثر انفجار هذه القذائف في ميادين القتال، أو لتواجدهم بالقرب من الدبابات والآليات المضروبة بها.
واستمر الإهمال والتجاهل حتى بعد استخدام القوات الأميريكية والبريطانية مجدداً لقذائف اليورانيوم المشعة عام 2003 ضد العراق، وبعد أن أكد العلماء وأثبتت الأبحاث والقياسات الإشعاعية انتشار التلوث الإشعاعي الى أبعد من ميادين القتال، وتجاوزه آلاف المرات الحدود المسموح بها دولياً. ولم يعد ثمة شك في أن أضرار الإشعاع لم تقتصر على العراق، وإنما طالت الدول المجاورة، وحتى البعيدة، إذ لا حدود للإشعاعات وليس بوسع أحد إيقاف انتشارها.
العربية: ما كشفه الطب الذرّي
حملت مجلة "البيئة والتنمية" لواء متابعة هذه القضية الخطيرة ونشرت عشرات المقالات حولها. وكانت من العناصر الضاغطة التي أدت الى الاعتراف الدولي بالتلوث الاشعاعي في العراق ومبادرة السلطات العراقية الى طلب الكشف على المواقع الملوثة. لكنها كانت شبه وحيدة إعلامياً في هذه المعمعة الكارثية.
وبعد صمت طويل لوسائل الإعلام الغربية والعربية، ما أوحى وكأن المشكلة انتهت، أثارت قناة "العربية" الفضائية الموضوع من خلال عرضها مساء الخميس 24 آب (أغسطس) الماضي فيلماً وثائقياً ضمن برنامج " مشاهد وآراء" الذي تقدمه الإعلامية ميسون عزام. هذا الفيلم سلط الأضواء مجدداً على محنة ضحايا الإشعاع الناجم عن استخدام الذخائر المشعة في حرب الخليج الثانية وحرب البلقان والحرب على العراق عام 2003. وبثت مشاهد للضحايا الراقدين في المستشفيات، وصور الأموات من المصابين بسرطان الدم والأورام الخبيثة والتشوهات الخلقية الرهيبة، ومعظمهم أطفال، معززة بنتائج الأبحاث والقياسات الإشعاعية الميدانية في العراق والبلقان، وبالبراهين والأدلة القاطعة التي قدمها علماء مرموقون من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة وكندا، مقرونة بشهادات صادرة عن مختبرات علمية معروفة عالمياً.
فقد تابع العالم الألماني سيغفرت- هورست غونتر، وهو طبيب أطفال وخبير بالطب الذري، الحالة الصحية للأطفال العراقيين الراقدين في المستشفيات العراقية حالياً والمصابين بالأمراض السرطانية. والتقى هناك أطباء مختصين، ومنهم الدكتورة جنان غالب حسن الاختصاصية الباحثة في طب الأطفال في البصرة والتي يعرفها منذ عدة سنوات. وتأكد له تزايد أعداد المرضى ومعدل الذين يموتون بسبب السرطان والتشوهات الولادية الحادة، وعجز الأطباء عن إنقاذ حياتهم في غياب العلاج اللازم والمعدات الطبية اللازمة.
وأظهر الفيلم الوثائقي، للمرة الأولى، علماء وباحثين ألمانيين أكدت تحليلاتهم المخبرية صحة ما توصل إليه البروفسور غونتر، خلال زيارته الأولى للعراق بعد بضعة أشهر من توقف الحرب عام 1991. وهو عزا الى ذخيرة اليورانيوم المستنفد مسؤولية انتشار السرطان والولادات الميتة والتشوهات الولادية التي أخذت تتزايد عقب الحرب، اذ ارتفع معدل الإصابات السرطانية 8- 10 أضعاف، ومعدل الولادات المشوهة نحو 19 ضعفاً، عما كانت عليه عام 1988. وروى غونتر قصة اعتقاله وحبسه في بلده، ومن ثم إبعاده عن الجامعة والتعليم والبحث العلمي، لكونه ساهم في كشف النقاب عن جريمة استخدام الذخيرة المشعة. وهو أدخل الى ألمانيا قذيفة صغيرة جلبها من ميادين القتال، كان الأطفال العراقيون يلعبون بها وتوفي أحدهم. فأثبتت المختبرات الألمانية، بإشراف علماء مختصين، أنها ذخيرة يورانيوم مستنفد، وأنها مشعة وسامة جداً. وقد صادرتها السلطات الألمانية عبر فريق اتخذ جميع الاحتياطات اللازمة للوقاية من الإشعاع.
طرد وتهديدات بالقتل
تضمن الفيلم الوثائقي الذي بثته "العربية" عرضاً للعالم الكندي تيد ويمان نائب رئيس المركز الطبي لأبحاث اليورانيوم (UMRC)، وهو مؤسسة بحثية دولية مستقلة تضم نخبة من العلماء المتخصصين بالإشعاع والطب الذري ولها مركزان في واشنطن وتورونتو. فقدم ويمان نتائج القياسات الإشعاعية العلمية الميدانية التي أجراها مع باحثين آخرين لعينات من التربة والهواء والماء أُخذت من العديد من المناطق العراقية عقب توقف الحرب الأخيرة. وهي أثبتت انتشار الإشعاع بنسب تجاوزت 30 ألف مرة الحدود المسموح بها في بعض المناطق. ووجد الإشعاع منتشراً في ركام الحرب، من دبابات ومركبات عسكرية وبنايات مهدمة ضربت بتلك القذائف، وفي بول العديد من العراقيين الأحياء الذين كانوا متواجدين بالقرب من الركام، وفي مناطق سقطت فيها القذائف والصواريخ الأميركية. وعرض الفيلم الوثائقي دبابة عراقية اخترقتها قذيفة يورانيوم وسقطت بعيداً، عند مصنع للثلج. وأثبت ويمان بأجهزة القياس الإشعاعي التي حملها معه أن الدبابة المضروبة ما زالت تشع بقوة الى مسافة بعيدة، وأن المياه التي تحيط بأرض المصنع المذكور ملوثة بالإشعاع، مؤكداً أن الخطر يشمل عمال المصنع ومنتجاته والناس المتواجدين في محيطه. وعرض للمشاهدين عينات من التربة أخذت من موقع دبابة مضروبة بتلك القذائف، أثبتت التحليلات تلوثها حتى بعد نقل الدبابة الى منطقة أخرى قبل أشهر عديدة.
وتحدث رئيس مركز UMRC العالم الأميركي من أصل كرواتي أساف دوراكوفيتش، وهو طبيب خبير بالإشعاع والطب الذري وكان عقيداً في الجيش الأميركي، عن نتائج الأبحاث والتحليلات التي أجراها لعشرات الجنود الأميركيين والكنديين والبريطانيين الذين شاركوا في حرب الخليج الثانية عام 1991 ويعانون من أعراض "مرض حرب الخليج" بعد أن كانوا أصحاء، وثبت أنهم يحملون في أجسادهم اليورانيوم المستنفد. وقد طرد دوراكوفيتش من الجيش ومن المركز الطبي الذي كان يديره ومن الجامعة حيث كان يدرّس، وتلقى تهديدات بالقتل، وهو الآن يعيش في بلد آخر في مكان لا يستطيع الكشف عنه خوفاً من تصفيته، لإصراره على معرفة الأسباب الحقيقية لمعاناة الجنود وتأكيداته القاطعة بأنها تعود الى إشعاعات ذخيرة اليورانيوم.
وعرض لنا الفيلم الوثائقي ضحيتين غربيتين من الجنود الذين شاركوا في حرب الخليج الثانية ووجد اليورانيوم المستنفد في جسديهما. وهما امرأة ورجل كانا في الخطوط الخلفية وكانا سليمين وقويين وفي عز الشباب. وقد مرضا عقب توقف الحرب وصارا يعانيان من أعراض حرب الخليج. وكانت المرأة تجهز الدبابات بالقذائف، وأنجبت بعد الحرب طفلين مشوهين توفي أحدهما.
تعتيم غربي وصمت عربي
فضلاً عن بث الفيلم الوثائقي بما تضمنه من معلومات وأدلة جديدة، استضاف البرنامج الأستاذ رياض قهوجي مدير عام مركز الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري في دبي، والدكتور مصطفى العاني مدير قسم الأمن ومكافحة الإرهاب في مركز الخليج للأبحاث المستشار في المعهد الملكي البريطاني للدراسات العسكرية والدفاعية، والطبيب الجراح الدكتور علي حسن الرئيس الأسبق لجمعية الأطباء الجراحين اللبنانيين. فقالوا ان حرب الخليج الثانية كانت أول اختبار فعلي في ميادين القتال للأسلحة الأميركية الجديدة التي تستخدم ذخيرة اليورانيوم المستنفد، وان البنتاغون كان يعلم مسبقاً بأخطار سلاحه الجديد.
وأضاف ضيوف البرنامج الى أن المسؤولين السياسيين صمتوا طويلاً، بمن فيهم العرب، ولم يتخذوا الإجراءات اللازمة للحد من التلوث الإشعاعي وتداعياته، متأثرين بمزاعم البنتاغون "عدم وجود" أضرار بيئية وصحية لذخائر اليورانيوم المستنفد. ولفتوا الى دور سلبي للأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، إذ أنها لم تحدد موقفاً واضحاً وصريحاً من استخدام ذخائر اليورانيوم المستنفد، وتحريمها دولياً، وتجاهلها للأعداد الكبيرة من ضحايا استخدامها في العراق والبوسنة وكوسوفو وصربيا وأفغانستان وفلسطين وربما لبنان، تحت ضغط الإدارة الأميركية. ولو اتخذت الإجراءات المطلوبة لدرء المخاطر في وقتها لما تفاقمت محنة ضحايا الإشعاع.
متى نتحرك؟
خلاصة القول ان الحلقة المذكورة من برنامج " مشاهدات وآراء" على قناة "العربية"، بما تضمنته من فيلم وثائقي جديد وآراء صريحة وجريئة أبداها ضيوف البرنامج جواباً على أسئلة مقدمته البارعة، شكلت مبادرة هامة ومطلوبة في وقت تتفاقم فيه محنة ضحايا الإشعاع في العراق والخليج، وما انفكت مصانع البنتاغون تنتج الذخائر المشعة وتطورها بمزيد من القدرة التدميرية والمهلكة للبشر، ولا من يردع الجيش الإسرائيلي عن استخدامها في عملياته العسكرية.
فهل سيتحرك الرأي العام والحكومات العربية في وجه من يستخدم هذه الأسلحة الفتاكة، ويسعون جدياً الى تحريمها دولياً؟ وهل سيساهم العرب في حملة دولية من أجل تطهير المناطق الملوثة بالإشعاع، ويدعمون الجهود الخيرة لتقديم المساعدة الدولية اللازمة لإنقاذ من بقي حياً من ضحايا الإشعاع في العراق؟
ومتى يتحرك مجلس النواب العراقي والحكومة العراقية بخطوات جدية وفاعلة لمصلحة هؤلاء الأبرياء من أبناء وبنات الشعب العراقي؟