تعددت الكتل السياسية على الساحة العراقية بعد سقوط النظام السابق. ولجأ بعضها ممن يملك ميليشيا الى التصفيات الجسدية بهدف التسلط والتحكم بزمام الأمور.
عندما تدخل معهد الطب العدلي في بغداد، يتبادر الى ذهنك أنك في موقع لنحر الماشية. فقد امتلأت الثلاجات الحافظة للجثث، وازداد عدد من يسمونهم ''مجهولي الهوية'' الذين لقوا حتفهم من دون وجود دليل أو بطاقة تعريف. خارج بناية المعهد تمر دوريات الشرطة التي تنقل الجثث في سيارات البيك أب المكشوفة. وعند توقفها يسارع الأهالي للبحث عن أبنائهم وأصدقائهم بين القتلى. وحين تقف أمام الممر الذي يؤدي الى بوابة المعهد، تراه في غالب الأحيان قد امتلأ بالجثث التي كدست بصورة عشوائية، اضافة الى الاعضاء المقطعة المرمية ايضاً في أكوام.
المثير في المشهد أن معظم الجثث موثقة اليدين وعلى رؤوسها آثار طلقات نارية، وبعضها بانت عليه علامات الانتفاخ. ولدى تجوالنا للبحث عن أحد الجيران الذي وافاه الأجل في حادث سير وأرسلت جثته للتشريح في معهد الطب العدلي، وجدنا أن غالبية الجثث غير مكتملة، فهي مقطعة أو محروقة.
مصادر مسؤولة في المعهد طلبت عدم الكشف عن هويتها ذكرت ان الكثير من المواطنين أهل الخير يعملون على أخذ بيانات وصور للذين تبقى جثتهم هناك لفترة معينة دون سؤال من ذويهم، ويؤخذون لدفنهم في مقابر معلومة، لكي تسهل معرفة اسمائهم وأين وجدت جثثهم.
سألنا العاملين في المكان عن سبب رمي الجثث على الأرض أكواماً، فكانت الإجابة محددة، وهي أن الثلاجات ممتلئة فضلاً عن تعطل القسم الأكبر منها، مما يجعلك تصاب بالغثيان والدوار وتنطبع صورة الجثث المكدسة في مخيلتك الى الأبد.
المواطن رائد قيس يعمل سائقاً لسيارة اجرة، قال: ''هذه الظاهرة انتشرت خاصة في بغداد بسبب الاحتقان الطائفي وقيام الميليشيات بهذه العمليات ضمن أجندة سياسية إقليمية. وهي تسبب حالات نفسية، فضلاً عن الأمراض نتيجة ترك الجثث على الطرق وتعرضها للانتفاخ والتفسخ''.
ملاذ الأمين محاسب في شركة أهلية يقيم في منطقة الدورة جنوب بغداد، حيث تكثر عمليات القتل ورمي الجثث. ذكر أن التصفيات الجسدية تثير الهلع، وأن الكثير من الجثث تكتشف بعد أيام من رميها فتكون عرضة للكلاب والقطط السائبة التي ''تستطعم اللحم البشري وربما تتحول الى حيوانات متوحشة تهاجم الناس''. وأكد نصير العوام الموظف في وزارة الثقافة أن معظم العائلات هربت من المناطق التي يكثر فيها رمي الجثث، كما يعزف الطلبة عن المواظبة على دوام مدارسهم بسبب انتشار الجثث المرمية والروائح الكريهة.
وللشرع رأيه في ما يحدث من عمليات قتل واختطاف ورمي على الطرقات. أحد رجال الدين وصفها بأنها ''تصفية حسابات بين العصابات، ومخطط خارجي ضمن أجندة سياسية يراد بها اضعاف العراق وزرع الفتنة بين الطوائف، ولا أعتقد أن منفذي هذه العمليات ينتمون الى عشائر العراق الاصيلة، الا بعض ضعاف النفوس الذين يلهثون وراء المال''.
نديم الكرطاني رجل دين قال: ''يجب أن نأخذ بالحديث النبوي الشريف الذي يقول: اكرام الميت دفنه. ما يحدث الآن هو خارج تعاليم الدين الاسلامي الذي أوصانا أن نكون اخوة متحابين''.
للطب دور في التوعية الصحية، فرمي الجثث على الطرقات وتعرضها لأشعة الشمس ساعات طوالاً يعرض المواطنين للاصابة بأمراض خطيرة، أولها الحساسية الجلدية، وكذلك بجرثومة اللشمانيا التي تسمى بالعامية ''حبة بغداد'' وقد أجمع الاطباء على كثرة انتشارها في الآونة الاخيرة مع ازدياد عمليات القتل.
أوضح الدكتور حيدر كبه، اختصاصي الأمراض الجلدية في معهد الحساسية التابع لمستشفى الكرخ في بغداد، ان ''المستشفيات تستقبل مئات الحالات المرضية الناجمة عن الجثث المتحللة في العراء، فضلاً عن انتشار ذبح الاغنام والابقار على الأرصفة وفي الشوارع الضيقة داخل الأحياء السكنية''.
وصرح أحد رجال الشرطة: ''عند ورود أخبار عن جثث مرمية، نبادر فوراً بمركباتنا العسكرية لنقلها. من المفروض تأمين سيارات خاصة لهذا الغرض، فقد تعرض كثيرون منا للإصابة بأمراض جلدية وغيرها''. وأضاف: ''كما أننا لا نتبع تعاليم الاسلام لدى نقل الجثث من الطرقات الى معهد الطب العدلي''، واصفاً العملية بأنها ''نقل حمولة'' لا غير!
ان الفوضى التي أصابت المجتمع العراقي بفعل التغيرات الأخيرة حملت الكثير من الأزمات الصحية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية، لعل أدهاها استرخاص حياة الانسان. وما يدعو الى الأسى وقوف وزارة الصحة غالباً موقف المتفرج. واذا استمر الوضع كما هو فسيشهد العراق قريباً كارثة صحية وبيئية من نوع فريد.