حفائر مياه ومساحات مزروعة واستراحات توفر خدمات بيطرية وإرشادية على امتداد دروب هجرة المواشي
إشراقة عباس (الدندر، شرق السودان)
المشاكل التي طالما نشبت بين الرعاة والمزارعين في السودان، وتسببت في أحداث مأسوية للطرفين، يتوقع أن تنتهي بعد النجاح في فتح ممرات للماشية. هذا ما أكده رعاة شاركوا في الاحتفال بفتح أحد هذه الممرات في ولاية النيل الأزرق.
شدة الفقر وتدهور الموارد الطبيعية، خصوصاً الزراعية والرعوية، هما أهم سمتين تميزان مناطق المراعي في ولايات سنار والنيل الأزرق والقضارف. لكنهما وفرتا سببين ملحين لاختيار هذه الولايات هدفاً لمشروع الإدارة المجتمعية لأحواض الأنهار، الذي يعمل على فتح ممرات ودروب غنية للماشية.
يقول نصرالدين سعيد، اختصاصي التقييم والمتابعة في المشروع التابع لمبادرة حوض النيل في منطقة الدندر: «خططنا لفتح وتعليم وتجهيز واستزراع خمسة مسارات لهجرة الماشية صيفاً وخريفاً خلال الفترة من 2011 إلى 2014، منها مساران في النيل الأزرق واثنان في سنار وواحد في القضارف. وجميعها في نطاق أحواض أنهار النيل الأزرق والدندر والرهد».
قبل التوسع في برامج الزراعة الآلية والاستثمارات الزراعية الكبرى بدءاً من العام 1969، كانت هذه الممرات مساراً طبيعياً ومصيفاً لكل الحيوانات، ومنها المواشي المستأنسة، في المنطقة الممتدة من ولاية سنار حتى جنوب السودان، كما يبين أحمد محمد أبوساس مدير إدارة المراعي والعلف في ولاية النيل الأزرق. لكن الرعي المكثف في هذه المناطق، نتيجة حيازة الزراعة غالبية أراضي المراعي، أدى إلى فقد المراعي الكثير من أشجارها وحشائشها المغذية والغنية بالبروتينات، وإصابة الماشية بالهزال وضعف القيمة الغذائية.
وأوضح أبوساس أن فتح المسار يعني تعليمه بوضع ألواح حجرية بارزة على جانبيه كل كيلومترين، وتجهيزه بنزل حيوانية أي استراحات للحيوان تتوافر فيها خدمات بيطرية للماشية وإرشادية للرعاة وحفائر للمياه، واستزراعها بأشجار ونباتات علفية مغذية كي لا ينهك الحيوان نتيجة السير مسافات طويلة من دون كلأ.
ماء وغذاء وراحة
احتفل رعاة ومختصون بالزراعة والثروة الحيوانية مؤخراً بتجهيز وفتح ممر الماشية «كبري الروصيرص ـ مينذا» في ولاية النيل الأزرق، الذي يعد أحد أهم المسارات في البلاد التي تسلكها الماشية ورعاتها بحثاً عن الغذاء.
يبلغ طول هذا الممر 85 كيلومتراً وعرضه كيلومترين، ويمتد من مدينة الروصيرص شمالاً حتى قرية مينذا جنوباً. وتسلكه الماشية ورعاتها مرتين سنوياً، عند هجرتهم في الصيف جنوباً ثم عودتهم في الخريف شمالاً. وقد اكتمل فتحه وتعليمه واستزراعه بالبذور العلفية والأشجار الغابية. كما تمت زراعة 9000 فدان في مزرعة نموذجية في المسار، بهدف إنتاج بذور علفية ذات قيمة غذائية عالية يمكن أن تنقل إلى مناطق ومسارات أخرى.
المسار الآخر في النيل الأزرق هو مسار «العزازا ـ أم درفا» الذي يتفرع من المسار السابق، وتم فتحه بطول 70 كيلومتراً وعرض يتفاوت بين كيلومترين و300 متر. ولكن لم يتم بعد استزراعه وتجهيزه بالنزل.
وثمة مساران مستهدفان في ولاية سنار، هما مسار «الدليبة ـ درايا» بطول 28 كيلومتراً وعرض كيلومترين، وقد تم فتحه وتعليمه وبدأت زراعته بثلاثة صفوف من الأشجار الغابية، ومسار «قرية عريش ـ عريف الديك» وطوله 30 كيلومتراً وعرضه كيلومتران وسيبدأ العمل فيه قريباً.
أهم مسار للماشية في ولاية القضارف يعمل عليه المشروع هو مسار «الفزرا»، الذي يبلغ طوله 88 كيلومتراً وعرضه 150 متراً، وقد تم فتحه وتعليمه ولم يستزرع. وقال أبوساس إن النجاح الذي تحقق تم بالتخطيط الجيد والتنفيذ الدقيق من الشركاء الإداريين والمنتفعين من هذه المسارات، الذين يشملون الرعاة والمزارعين والادارت الفنية المختصة في وزارتي الزراعة والثروة الحيوانية والخبراء المختصين الذين يوظفهم المشروع.
إشراك المزارعين والرعاة
ولاية النيل الأزرق غنية بالغابات والمراعي الطبيعية، لكنها تعاني من رعي كثيف ومركز للحيوانات القادمة من سبع ولايات في البلاد. وهي تضم ثمانية مسارات للماشية، نفذ المشروع منها ثلاثة مسارات. وأفاد المنسق المحلي لبرنامج الإدارة المجتمعية، في منطقة الدندر الدكتور صلاح الماحي أن أهم ما يحققه المسار هو توفير الماء والغذاء الجيد على امتداده. وقد صممت الحفائر المائية والنزل التي تتوافر فيها الخدمات البيطرية والأشجار الغابية والأعلاف على مسافات تتراوح بين 12 و15 كيلومتراً كي تؤدي هذا الغرض. ومن الأعلاف والأشجار المزروعة نبات الفليبسارا والكلاتوريا وأشجار الهشاب والحراز وغيرها، وجميعها مغذيات بروتينية جيدة .
وأعرب عبدالرحمن حسن، رئيس اتحاد رعاة النيل الأزرق، عن الأمل الذي يعلقه الرعاة على هذه المبادرة، قائلاً: «نحن سعداء بهذا الممر الحيوي، بعد تخصيصه كاملاً لنا وإبعاد المزارعين الذين ظلوا لأعوام يتعدّون على حرمة مراعيه الطبيعية». وأضاف أنه، نتيجة لسوء التخطيط في سياسة الأراضي وهيمنة الزراعة على الرعي وتأسيس مزارع على هذا الممر، لم تكن الماشية تجد طريقاً تسير فيه، فظل الرعاة يتعرضون للجلد والحبس والغرامة بسبب دخول حيواناتهم إلى المزارع. وأكد أن هذا الوضع تغير منذ أصدرت الولاية قانوناً خاصاً بالمراعي حددت بموجبه مسارات للماشية، بعد اجتزاء 20 في المئة من الأراضي الزراعية المملوكة للأفراد و25 في المئة من الأراضي المملوكة للشركات، وتم تعويض هذه المساحات في أراض أخرى بعيداً عن المراعي.
الراعي حسن أبو أحد، في ولاية القضارف المجاورة، وصف الممر بأنه نموذجي وغير مسبوق، قائلاً: «لو لم أرَ ما رأيت بأم عيني لما صدقت». وتمنى أن يحظى جميع الرعاة في ولايات السودان بتخصيص مسارات لماشيتهم بالمواصفات التي شهدها في مسار «كبري الروصيرص ـ مينذا»، واصفاً اتحاد الرعاة في النيل الأزرق بأنه «قوي ويحسن ما يفعله».
لكن مختار بابكر، نائب رئيس إتحاد رعاة السودان ورئيس إتحاد رعاة سنار، اعتبر أن ليس من السهل فتح ممرات للماشية ورعاتها، ومن الصعب التفريق بين الأراضي الزراعية والمراعي في السودان لتداخلها. وأضاف أن نجاح اتحاد رعاة النيل الأزرق في فتح الممرات وإصدار قانون للمراعي في الولاية يؤكد تميزه بين اتحادات الرعاة في السودان. وقال: «بدأنا في ولاية سنار تطبيق هذه الخطوات، لكننا لم نسر كل هذا المشوار»، مبيناً أن نجاح الرعاة في النيل الأزرق كان نتيجة للدراسة العلمية والتخطيط الجيد بمساعدة برامج الإدارة المجتمعية للأحواض، وتنفيذه للمشروع بإشراك المنتفعين منه المزارعين والرعاة.
وأوضح الدكتور الفاضل عبدالـله، اختصاصي المراعي في مشروع الإدارة المجتمعية للأحواض المائية، أن المشروع يهدف إلى زيادة وعي المشاركين من الرعاة بالتقنيات الزراعية التي تم تطبيقها داخل المسار، وبناء قدراتهم على إدارة الموارد الطبيعية والمراعي وتقنيات الحفاظ عليها وزيادة الغطاء النباتي والغابي. ومن هذه التقنيات الزراعة الغابية العلفية وزراعة التحميل المختلطة أي زراعة بقوليات مع نجيليات، وتقنية وحصاد المياه باستخدام الشكل «v» الذي يحتفظ بكميات أكبر من المياه في الزراعة وري الأحواض الزراعية. وتؤدي هذه التقنيات إلى رفع كفاءة استغلال الأراضي وزيادة كمية البذور المنتجة من محصولين وتخصيب الأراضي بالتركيز على الأسمدة الطبيعية.
نموذج لثلاثة بلدان
يشكل مشروع الإدارة المجتمعية للأحواض المائية أحد مكونات مشروع الأحواض المائية في النيل الشرقي، الذي يضم السودان وإثيوبيا ومصر، ضمن مبادرة حوض النيل. وينفذ بواسطة وزارة الري والموارد المائية تحت إشراف البنك الدولي. ويهدف إلى زيادة تطبيق تجارب الإدارة المستدامة للأراضي والمياه في أحواض الأنهار. ومن المخطط أن يستمر البرنامج، الذي بدأ تطبيقه عام 2010، لخمسة أعوام تنتهي عام 2014. وتبلغ الموارد المالية التي تم اعتمادها في جميع المناطق المختارة 35 مليون دولار، قدمت الحكومة السودانية منها 13,5 مليون دولار والحكومة الفنلندية 13 مليون دولار والبنك الدولي 8,5 مليون دولار.