لا شيء يمنع ما يحدث، ولا أحد يريد الإيغال في أصل القضية، في تلك الأماكن القصية، حيث يحل سكون الأسلحة التي أمالت حدود البلاد بالغمائم.
الأسئلة كثيرة عن مصائر أسلحة القوة العسكرية التي عدُّوها ضمن الخمسة الأوائل في الكرة الأرضية: ماذا حل بها، وأين طمروها، ومن يسترزق منها؟ تصاريح في ملف مطوي عدة مرات، وموافقات مديرين ليس لهم وجود، تحكي قصة الحديد المشترى بأضعاف سعره في السوق السوداء أيام «حرب التحرير المجيدة» والمباع بعد حرب تحرير معاكسة.
من المعروف أن السفير بول بريمر هو الذي يصدر الأوامر والمراسيم الرئاسية في العراق منذ هروب الرئيس المخلوع صدام حسين وحتى الآن. ويوقع الحاكم المدني الأميركي يومياً على عدد منها، يحلّ في قسم منها ويربط في أجزاء أخرى. وبما أن الحلّ والربط بيده، فقد أصدر «الأمر» المرقم 12 المعني بـ«سياسة تحرير التجارة» الصادر في 7 حزيران (يونيو) 2003، ثم أمراً جديداً صدر في 23 كانون الثاني (يناير) 2004 وحمل عبارة «تصدير المعادن الهالكة أو الخردة»، عدّل بموجبه ما جاء في الأمر السابق مبتدئاً بالعبارة البيروقراطية: «بموجب القوانين والأعراف المتبعة في حالة الحرب».
لا ينبغي علينا تفويت التعليق على مبتدأ «الأمر» في هذه العبارة القابلة للجدل، أولاً، ان الرئيس الأميركي جورج بوش أنهى الحرب بتصريح علني في الأول من أيار (مايو) 2003، فلماذا يتبع حاكمه في العراق الأعراف المتبعة في حالة الحرب؟ ثانياً، لم يفهم المطلع على الأمر ماهية القوانين والأعراف المتبعة في حالة الحرب ولم يشر إليها «الأمر الرئاسي».
لنترك شأن هذه العبارة للحقوقيين ولنمض في قراءة «الأمر» الذي بدأ يشرح نفسه كالتالي: «إشارة الى الحظر المفروض حالياً على تصدير بعض المواد، بما في ذلك المنتجات المعدنية، واعترافاً بأن التصدير المشروع للمعادن الهالكة أو الخردة قد يكون بالنسبة للشركات والهيئات التجارية العراقية مصدراً هاماً للدخل وتأكيداً على الحاجة للسيطرة على نشاط السوق السوداء، أعلن بموجب ذلك إصدار الأمر التالي:
"يعرف القرار المعادن الهالكة كالتالي: المواد المصنعة والمستخدمة كمنتج ما أو كجزء من منتج ولكنها طرحت جانباً بسبب عجزها عن توفير الفائدة المنشودة منها على نحو يواكب متطلبات العصر أو بسبب تعرضها للضرر والتلف».
ويصل «الأمر» الى النتيجة التالية: «يجوز تصدير المعادن الهالكة أو الخردة من العراق قبل هذا التاريخ، دون الحصول على ترخيص باستثناء الهالك أو الخردة من النحاس والرصاص».
التوقيع: رئيس الإدارة المدنية لسلطة التحالف في العراق بول بريمر
أسئلة وتعليقات
هذا القرار، أو الأمر، هو ملخص القضية التي ستصل الى مجلس الأمن في ما بعد لخطورتها، وهي جوهر تحقيقنا. لذلك لا بد أن نفي هذا الأمر حق قدره بجملة من التساؤلات والتعليقات نوجزها كالتالي:
1. لم يحدد القرار أياً من «الشركات والهيئات التجارية العراقية» التي لها الحق في التصدير.
2. لم يشر، لسبب ما، الى أسلحة ومعدات الجيش الثقيلة، وإن كان يعنيها ضمناً بالعبارات «طرحت جانباً بسبب عجزها» و«بسبب تعرضها للضرر أو التلف». وتم التعامل مع الأسلحة كحديد خردة، بالرغم من أن نسبة كبيرة منها صالحة للاستخدام، ناهيك عن الأجهزة الخاصة التي تدخل ضمن تركيب الأسلحة ولا سيما المدرعات والطائرات والهيليكوبترات والصواريخ وأجهزة الرصد والرادارات والملاحة الجوية والبحرية والزوارق الصاروخية وغيرها.
3. لماذا لم يحول القرار الأمر الى لجنة متخصصة أو هيئة مخولة تحدد المواصفات المذكورة التي تم تعريف «المعادن الهالكة» بها؟
4. الاستثناء الذي وضعه القرار لتلك «المواد المصنعة والمستخدمة كمنتج أو كجزء من منتج»، الهالك منها أو الخردة من النحاس والرصاص، ألا يجوز دعم الاقتراح الماضي بوجود هيئة للمتخصصين تقوم بمهمة الفحص والتقدير؟ فالذي حصل أن كل الأسلحة مكدسة لدى مجموعات اللصوص وقطاع الطرق، فهل يوجد بين هؤلاء أو بين مأموري الجمارك الذين يشرفون مأمور الجمرك الذي يشرف على تصديرها، خبير كيميائي يميز بين القصدير والنحاس والطباشير من الرصاص؟!
5. التناقض الكبير بين عبارة «تأكيداً على الحاجة للسيطرة على نشاط السوق السوداء» وتحديد الأمر «يجوز التصدير... دون الحصول على ترخيص ...»! ألا يؤدي إطلاق العنان للتصدير بلا ترخيص إلى خلق السوق السوداء التي يخشاها صانعو القرار؟
6. عبارة «عجزها عن... مواكبة متطلبات العصر أو... تعرضها للضرر والتلف»، أليس المقصود بها الأسلحة العراقية؟ نعتقد أنها كذلك كما تبين للجميع في ما بعد، فمن يقرر مواكبتها للعصر أم عدمه، ومن يقدر التلف أو الضرر فيها، لو كان العسكريون بعيدين عن العملية سواء المنبوذون أو المقربون الى سلطة التحالف؟
7. لماذا يراد التخلص من أسلحة الجيش المحلول بالقوة؟
8. إذا وافقنا على كل ما جاء في «الأمر التحالفي»، لماذا لم تشتر الخردة الدولة العراقية نفسها من (لا ندري ماذا نقول حقيقة) اللصوص مثلاً؟ خاصة أن في البصرة واحداً من أكبر معامل الحديد والصلب في الشرق الأوسط، هذا اذا أراد القائمون على البلد إفادته ولو من خردته. ولماذا يباع السلاح الى الأردن وتركيا وإيران بالجملة وكحديد خردة؟
9. لماذا الاستعجال في تقرير مصير أسلحة البلاد وأجهزتها الدفاعية التي دفعت لشرائها، غالباً في السوق السوداء الدولية، ثمرة أجيالها؟ ألا يتطلب الأمر (لو لم يكن يحمل نيات مبيتة للإضرار بالعراق استراتيجيا) الصبر قليلاً، حتى تتولاه حكومة وطنية منتخبة؟ ترى هل ضاقت الأرض العراقية الشاسعة والفارغة ولا تستطيع تحمل «مزبلة الحروب»، ريثما يتم نبشها والاستفادة منها محلياً؟
10. لو كان رئيس الإدارة المدنية حريصاً، كما جاء في أمره، على بيعها لكونها «مصدراً هاماً للدخل»، فهل أصبحت فعلاً «مصدراً للدخل»؟ وإذا أصبحت كذلك فعلاً، فلدخل من أصبحت؟ هل يعلم؟ هل رممت بأموالها مستشفى أو عولج مصاب باليورانيوم المستنفد أو رمم معرض أو خيطت ستارة لمسرح أو بني سياج مستشفى المجانين أو اشتروا كراسي لمركز اتحاد الأدباء؟!
بالأقمار الاصطناعية
يمتد تحقيقنا من الفلوجة حتى طويريج على مشارف كربلاء، ومن ساحة النهضة في بغداد حتى اليوسفية، ومن النهروان والتاجي وصولاً الى المحاويل والصويرة، تنقلاً في ربوع العراق في رحلات البحث عن الحشرات المضطربة.
لم تحن ساعة كتابته، لأن موضوعه مفتوح على الكثير من المواقف المدهشة والسرقات والتناقضات، حتى اللحظة التي طالعنا فيها استغاثة وجهها مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي وحملتها رسالته الى مجلس الأمن، واستندت الى صور للأقمار الاصطناعية لعدد من المواقع في العراق كانت قبل الحرب خاضعة لعمليات رصد الوكالة. أشارت هذه الصور الى إزالة (وعلى نطاق واسع) للمعدات والأصناف المحظورة، بما فيها إزالة مبان بأكملها في بعض الحالات، كما تؤكد الرسالة التي لم يفتها الإشارة الى أن صور الأقمار الاصطناعية بينت أن كميات كبيرة من الخردة، بعضها ملوث، نقلت الى خارج العراق.
يتساءل صاحب الرسالة: «لا نعلم ما إذا كانت ازالة هذه الأصناف قد تمت نتيجة لأعمال النهب التي حدثت في أعقاب الحرب الأخيرة في العراق أو كجزء من جهود منظمة لإصلاح بعض الأماكن في العراق».
جوهر الأمر أن هذه الأسلحة تعرضت للنهب، وكذلك قامت وحدات الهندسة التابعة للتحالف بتجميعها في مقابر خاصة.
جهد رائع أن تجمع الوحدات كل هذا السلاح في أماكن بعينها، خشية تعرض المواطنين لأذاها كما حصل. لكن قوات التحالف، المشكورة الفعل، جمعتها في المقابر وتركتها! هكذا، لم تعزلها في مناطق خاصة ولم تفرض عليها ولو حارساً ليلياً. والغريب أن أغلب هذه المناطق التي جمع فيها السلاح كانت بالقرب من الأحياء السكنية كما توضح الصور، لذلك أصبحت عرضة لمن هب ودب فعلاً. ووصل الأمر الى أن يأتي فلان ويكتب اسمه على الدبابات التي تعجبه، مع رقم "موبايله" للاتصال به للتفاوض على أسعارها!
ما يحصل في العراق، وبناء على أوامر الحاكم المدني، من بيع أسلحة ومعدات وأجهزة الجيش بالجملة، يتناقض مع قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 715 الصادر في 1991 والساري المفعول حتى الآن، والذي يلزم السلطة العراقية (في هذه الحالة سلطة التحالف حسب قرار 1483 في 2003) بتقديم شرح كل ستة أشهر عن التغييرات التي تحصل في البلاد في هذا الجانب، بما في ذلك الأسلحة (تصديراً واستيراداً وواقعاً)، وآلية التصدير والاستيراد لأصناف الأسلحة العراقية حددها القرار 1051 لسنة 1996.
نستنتج من ذلك أن كل ما يتعلق بأسلحة الجيش العراقي مرهون بقرارين دوليين واضحين، تم تجاوزهما من قبل السفير بريمر ووزارة التجارة العراقية، لأن من شأن توجيهات مجلس الأمن وحدها معالجة هذه المسألة ذات الشأن الخطير والتي قال المتحالفون انهم جاؤوا ليخلصوا الكون من شرورها.
فهل يجوز أن يسلبوها من الجيش العراقي ليمنحوها الى إيران والأردن وتركيا مجاناً تقريباً؟
وهل تكون هذه الأسلحة شريرة بيد العراقيين ولا تكون كذلك بيد الإيرانيين والأردنيين والأتراك؟
ضوابط السكراب
تنفذ شروط وزارة التجارة العراقية للمتقدمين الى تجارة السكراب (وهي الأسلحة العراقية كما أوضحنا) في 30 أيلول (سبتمبر) المقبل. ويقولون في وزارة التجارة إن من يقدم على تصدير السكراب ينبغي أن يكون «شركة مسجلة في العراق مملوكة كلياً من عراقيين متمكنين مادياً (!)». وقالوا لاحقاً في هذه الوزارة إنهم حددوا 30 تاجراً لتصدير سكراب الجيش بمزايدة علنية، وتكون عملية الشراء والبيع مقاسة بالطن المتري. وستقوم الوزارة بالتنسيق مع الجمارك لتسهيل عملية شحنها الى الخارج.
وعلل مسؤولون في وزارة التجارة العراقية هذا الاجراء بأن «أسعار السكراب العالمي في أعلى مستوياتها الآن، وتعد هذه فرصة ممتازة لخلق وظائف وتوفير فرص عمل للمواطنين العراقيين».
وعن سبب عدم صهرها واستثمارها محلياً، أكدوا أن «عملية إصلاح مصانع صهر المعادن ستأخذ وقتاً طويلاً وأموالاً طائلة، لذلك فوجوب تصدير السكراب أفضل من انتظار إصلاح تلك المصانع».
أهذه أسبابهم في بيع ممتلكات الوطن؟ الحديث عن توفير الوظائف في هذه العملية كلام حق يراد به سكراب، فمقابر الأسلحة تسيطر عليها عصابات (لم تصل الى مستوى المافيا بعد)، وهي التي تبيع للمصدرين بالآلاف، فيبيعون السلاح بدورهم الى مصادر معينة خارج العراق بالملايين.
كادر
المتلوثون
خبراء في طب المواد المشعة قالوا إن استخدام المعدات العسكرية المضروبة، بل حتى الاقتراب منها، يشكل تهديداً لصحة الإنسان حالياً وفي المستقبل.
ولو علمنا أن الأطفال ينامون داخلها في الاستراحة بين تقطيع مدفع أو فوهة دبابة، فإن تحذير المختصين بعدم الاقتراب منها ووضعها قرب المناطق السكنية يعد إبهاراً نظرياً للعلم.
وأكد المختصون أن غالبية الإصابات بالسرطان التي وردت الى المستشفيات العراقية كانت من قبل مرضى يسكنون قرب المنشآت العسكرية التي دمرت خلال الحرب.
أضف الى ذلك أن تدمير القطع العسكرية، التي يجري تفليشها الآن لبيعها كسكراب، قد تم بقذائف لم تكن كلها بريئة. فحسب أقاويل عسكريي الجيش وعدد من المختصين، فإن آلافاً من القطع العسكرية قد تم ضربها بذخائر فيها أسلحة كيميائية وتحوي مواد مشعة. ولو صدق هذا القول فكلنا سنتجعد بفعلها بعد 8 - 10 سنوات.
كادر
في ساحة المعركة
نتجول في مقابر السلاح كما لو دخلنا ساحة معركة خسرها الجميع. ثمة صبية يهرعون إليك ما ان يروا مقدم سيارتك، ليتولوا مهمة عرض سلعهم. تسأل عن التجار، يقولون لك إن هذه بضاعتهم، ويوفرون لك حتى الشاحنات والرافعات إن أردت. لا داعي لأن تعرّف عن نفسك، فسيطردونك باللعنات لو عرفوك صحافياً. قل لهم في هذه الحالة إنك تصور الموقع لتدرس إمكانية شراء «الحديد» المعروض.
تتفاوض على الأسعار، فتجد أن الطن لا يتجاوز 100 - 150 دولاراً. يجدر القول والتكرار بأن الكثير من هذه القطع رأيناها بعد انتهاء الحرب بكامل قيافتها العسكرية ولم تتعرض للتلف والتدمير، وقسم كبير منها لم يستخدم ولم يطلق النار. الحديث يشمل الكثير جداً من الدبابات والمدرعات والمدافع الذاتية والطائرات والمروحيات. ووصل الأمر الى أن مدافع حديثة نشرها النظام بين البيوت، فقام الأهالي بتفكيكها وإخفائها في بيوتهم ومن ثم باعوها بمبالع لا تتجاوز 200 دولار.
الآن تبيع العصابات الدبابات العراقية بما يعادل 700 - 800 دولار، ويتم تهريبها الى الشمال ومن ثم الى تركيا أو إيران. هذه الدبابات اشتراها النظام خلال حروبه بمليوني دولار في السوق السوداء. ويستمر هذا النهب الوطني منذ سقوط النظام، ولم تطلع العصابات وقطاع الطرق والمهربون والتجار حتى على الأوامر والمراسيم وقرارات مجلس الأمن التي ذكرناها آنفاً.
كيف تسير الشاحنات المحملة بالدبابات، والقوات الأميركية متواجدة في كل شارع في العراق؟ الشعب العراقي المغرم بالنكتة منذ نصف قرن علق على الموضوع بالنكتة التالية: يوقف أحد حراس نقاط التفتيش شاحنة تحمل دبابة ليسأل سائقها: "هل لديك سلاح؟" لم تعد الدبابة سلاحاً في العرف العراقي. وغالب الظن أن القيادات العراقية والتركية والأردنية والإيرانية ضحكت على هذه النكتة مراراً، فكل شيء يجري بذلك الوضوح الذي لا يمكن أن ينطلي حتى على أقمار البرادعي.