في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، اندثرت الحضارات التي كانت تمتد من اليونان إلى مصر وبلاد الرافدين. وفي غضون بضعة عقود لم تعد حواضر الحثيين والبابليين والميسينيين والكنعانيين قائمة، واختفت بغيابهم نُظم كاملة للكتابة والعمارة والتكنولوجيا. وفيما يربط كثيرون بين هجمات "شعوب البحر" وانهيار هذه الحضارات، تشير الدراسات إلى أن سلسلة من حالات الجفاف الشديدة استمرت لنحو 150 سنة كانت المحرّك الأساسي لاندثار الحضارات في شرق البحر المتوسط. والمدهش أكثر أن الجفاف لا يزال يطارد ما تبقى من آثار هذه الحضارات.
الجفاف "يبتلع" المناطق الأثرية
تسبب الجفاف في شرق المتوسط قبل 3200 سنة بإطلاق سلسلة من الأحداث، بدأت باقتلاع مجموعات من الناس من أراضيهم في المناطق الشمالية، وأرغمتهم على الانتقال شرقاً وجنوباً للقيام بغزوات بحثاً عن الطعام والموارد. ودفعت هذه الغزوات مجموعات بشرية أخرى لهجرة مواطنها، مما تسبب تباعاً في إشعال الاضطرابات وتعطيل النُظم الاقتصادية والتجارية الهشّة في المنطقة.
وقد تكرر هذا "الحراك الإنساني" في مراحل كثيرة عبر التاريخ، بمقاييس أصغر وعلى نطاق أضيق. فعلى سبيل المثال، تسببت "قصعة الغبار" الشهيرة في الولايات المتحدة خلال ثلاثينات القرن العشرين بنزوح كبير للأُسر من أوكلاهوما وتكساس إلى كاليفورنيا. وفي العالم العربي، تُشير الدراسات إلى أن الجفاف، الذي دفع الكثير من الأسر للهجرة من أراضي الجزيرة السورية إلى المناطق الهامشية في مدن حلب ودمشق وحمص اعتباراً من سنة 2006، كان أحد أسباب فقدان سورية لاستقرارها.
وبينما لا توجد صلة مباشرة بين الجفاف وأعمال التخريب والسطو التي طالت أماكن أثرية وتاريخية كثيرة في سورية، مثل تدمر وحلب القديمة وبصرى وأفاميا ودورا أوروبس وإيبلا وماري وعين دارة وغيرها، لكن لا يمكن، في الوقت ذاته، إنكار أن الجفاف كان محركاً لغياب الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، الذي وفّر الظروف المناسبة لمثل هذه الأعمال.
وحتى في أوقات السِلْمْ، تلعب المخاوف من فقدان الأمن المائي دوراً سلبياً في إعطاء المشروعية للتعدي على المناطق الأثرية. ففي منتصف ستينات القرن الماضي، أثار إنشاء السد العالي في أسوان اهتماماً غير مسبوق بحماية التراث الثقافي. وفي ذلك الحين، اعتقد كثيرون بحتمية الاختيار بين الثقافة والتنمية، أو بين المحاصيل الغذائية المزدهرة وآثار التاريخ المجيد. ولكن بفضل المبادرات الوطنية المخلصة والتعاون الدولي، أمكن نقل أحجار معبد أبو سمبل وحمايته من الغمر بمياه بحيرة ناصر، وكان من نتائج المشروع لاحقاً إطلاق اتفاقية اليونسكو بشأن التراث العالمي.
ولكن النجاح الذي تحقق في مصر لم يحالف مواقع أثرية أخرى. ففي سورية، تسبب إنشاء سد الفرات في نهاية الستينات ومطلع السبعينات في إغراق موقع حبوبة كبيرة الذي يعود لفترة أوروك في منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد. وتتميز مستعمرة "حبوبة كبيرة" بمرافقها العامة، لا سيما الطرقات المرصوفة وأنظمة أنابيب الصرف الصحي والمطري، التي تعدّ من بين الأقدم في العالم، إن لم تكن أقدمها. كما ألحق الغمر خلف السد أضراراً بموقع مملكة إيمار، التي يعود تاريخها إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، واكتُشفت سنة 1972 في إطار حملة الإنقاذ الدولية لآثار حوض الفرات برعاية اليونسكو.
وعلى الضفة الغربية لنهر دجلة، بالقرب من مدينة الشرقاط العراقية، تتعرض مدينة آشور الأثرية لتعديات متكررة بسبب غياب الاستقرار والجهل بأهميتها. ومع اتساع الجفاف في المنطقة، أعلنت الحكومة العراقية في 2002 عن خطة لبناء سد في ناحية مكحول على بعد نحو 40 كيلومتراً جنوباً، مما جعل اليونسكو تصنف مدينة آشور على أنها موقع تراث عالمي معرض للخطر.
توقف المشروع بسبب الحرب العراقية سنة 2003، ولكن بسبب المخاوف من نقص المياه في المنطقة أعادت الحكومة العراقية إحياءه، ووضعت حجر الأساس له في أبريل (نيسان) الماضي. ومع بدء أعمال الحفر والبناء، يخشى كثيرون من تعريض أكثر من 200 موقع أثري بالقرب من الشرقاط لخطر الغمر بمياه السد في منطقة مكحول.
نُظم مائية تاريخية عرضة للاندثار
قبل 100 ألف عام، كانت شبه الجزيرة العربية تلتقي الصفيحة الأوراسية بأرض غنية بالأنهار، سواء تلك الآتية من الشمال مثل نهري الفرات ودجلة أو تلك القادمة من الشرق مثل نهر كارون. ومع تغيُّر المناخ الطبيعي، طغى المحيط الهندي على هذه الأرض، فتشكل الخليج قبل 8000 سنة، وكانت حدوده أوسع حيث لم يكن شط العرب قد تشكل بعد، ثم أخذت مياه الخليج بالتراجع تدريجياً.
وطرأ الجفاف على وسط شبه الجزيرة العربية نتيجة لتقلبات جيولوجية حدثت في الألف الثالثة قبل الميلاد. وارتبط هذا الجفاف بانحسار المياه عن أطراف شبه الجزيرة العربية، مما أدى إلى تناقص الرطوبة التي تحملها الرياح الغربية التي تهب على أرضها. وتسبب الجفاف الناشئ بموجات هجرة بشرية جديدة باتجاه الشمال والشرق. ويبدو أن مياه الخليج، التي انحسرت عن الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وتفجّر الينابيع العذبة في هذه المنطقة، وفّر الظروف المناسبة لقيام حضارات هامة، أشهرها حضارة دلمون في جزر البحرين المعاصرة.
على أن وفرة المياه والخصوبة الزراعية، التي كانت السبب المباشرة في نشأة حضارة دلمون، كانت السبب أيضاً في انهيارها، إذ اجتذبت أنظار الآشوريين والكلدانيين واستتبعت سيطرتهم عليها لاحقاً. ومع تغيُّر طرق التجارة واستمرار انحسار مياه الخليج، تراجعت أهمية دلمون إلى أن أُهملت تماماً في القرن السادس قبل الميلاد.
وحتى وقت قريب، كان أهل البحرين يعتمدون بشكل كبير على الينابيع التاريخية، مثل عين عذاري وعين قصاري وعين أم السجور وعين أم شعوم، لتأمين مياه الشرب وري الأراضي الزراعية. كما ابتكر البحرينيون منذ مئات السنين أسلوباً خاصاً بهم في حفر القنوات من أجل الاستفادة من العيون في المناطق البعيدة، بشق أخاديد منحدرة تحافظ على سرعة تدفق المياه وغزارتها.
وبسبب الإفراط في استنزاف المياه الجوفية وتملُّحها، تعتمد البحرين حالياً على تحلية مياه البحر لتأمين نحو 60 في المائة من إجمالي احتياجاتها المائية. وتقترن هذه التقنية بالتكاليف المالية العالية، التي تتطلب الدعم الحكومي كما تستنزف قدراً كبيراً من الطاقة، مما يؤدي إلى تراجع موارد البلاد من الغاز الطبيعي الذي تستخدمه محطات التحلية.
وفي عُمان، التي امتدت إليها حضارة دلمون ونشأت على أرضها حضارة مجَان في الفترة الزمنية ذاتها، تواجه قنوات المياه التاريخية التي تروي أراضيها خطر الجفاف. وتُعرف هذه القنوات محلياً بالأفلاج، وهي تشق الصخور لتصل بين المصادر المائية في الأماكن المرتفعة والأراضي القابلة للزراعة. وكانت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو أدرجت في سنة 2006 خمسة أفلاج عُمانية ضمن مواقع التراث العالمي.
ويوجد في السلطنة أكثر من 4000 فلج يبلغ عمر بعضها نحو ألفي سنة. وبسبب الجفاف وإهمال الصيانة توقف جريان الماء في حوالي ألف فلج. وفيما يُلقي البعض باللائمة على تغيُّر المناخ، يرتبط جفاف الأفلاج في عُمان باستنزاف المياه الجوفية عن طريق الآبار الخاصة التي يحفرها المزارعون.
وفي محاولة لضمان استمرار جريان المياه في الأفلاج، فرضت السلطات العُمانية مناطق حرم في محيط الينابيع المغذية للأفلاج، يُمنع ضمنها حفر الآبار الجديدة. كما قامت ببناء عدد من السدود لتغذية الأحواض المائية ورفع منسوب طبقات المياه الجوفية. ويرى كثيرون أن مفتاح الحفاظ على الأفلاج قد يكون اقتصادياً، من خلال إدخال زراعات ذات مردود أعلى، مما يتطلب أيضاً زيادة كفاءة استخدام مياه الأفلاج وتقليل الهدر.
إشكالية الحفاظ على المواقع التاريخية وحمايتها من آثار الجفاف ومشاريع الأمن المائي لا يمكن حلّها إلا من خلال تعريف الأجيال الناشئة بأهمية ما تمثله هذه المواقع من أصول ثقافية وسياحية. وكما كان الحال في مشروع الحفاظ على معبد أبو سمبل، توجد في كثير من الأحيان فرص للوصول إلى تسوية تدعم خطط التنمية وتحافظ في الوقت نفسه على الكنوز الحضارية.