يصدر تقرير "الاتجاهات العالمية" كل أربع سنوات منذ سنة 1997، وهو تقييم شامل يعدّه المجتمع الاستخباري الأميركي للاتجاهات الجيوسياسية العالمية. ويهدف التقرير إلى وصف السيناريوهات الواقعية التي قد يواجهها صانعو السياسات الأميركية خلال 20 سنة مقبلة.
وكما جاء في مقدمة تقرير هذه السنة، لا يهدف مجتمع الاستخبارات إلى تحديد شكل العالم في سنة 2040 على وجه الدقّة، ولكن غايته تسليط الضوء على القضايا والاتجاهات التي قد تتضخم أهميتها إلى جانب التحديات الراهنة التي ستكون مفيدة عند وضع استراتيجيات الأمن القومي.
ويتزامن إصدار هذا التقرير مع التقييم السنوي للتهديدات الذي تصدره مجموعة الاستخبارات في الولايات المتحدة، حيث يضع مدير المخابرات الوطنية ورؤساء وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة استخبارات الدفاع تقييماً للتهديدات التي تواجه الولايات المتحدة أو قد تتعرض لها في العام المقبل.
ويجري إعداد تقرير "الاتجاهات العالمية" وفق عدّة خطوات، بدءاً من تدقيق وإعادة تقييم التقارير السابقة وتعديل النهج وفقاً لذلك، مع دمج طرق التجميع والتحليل الجديدة. كما يجري رصد ردود الفعل الداخلية والخارجية وتقييم الحوارات المفتوحة مع المجتمع الأكاديمي والقطاع الخاص.
علاوة على ذلك، يدرس واضعو التقرير العديد من القوى البنيوية، بما فيها العوامل الديموغرافية والبيئة والاقتصاد والتكنولوجيا، وآلية تأثير العوامل الخارجية الأخرى، كالسلوك البشري، على المشهد الجيوسياسي. ويلحظ التقرير التحديات العالمية المشتركة، مثل تغيُّر المناخ والأزمات المالية والاضطرابات التكنولوجية، وأثرها على جميع الدول. ولا يمكن وصف التقرير بالكرة السحرية التي يمكن من خلالها رؤية المستقبل، بل هو تحليل جيّد يوفّر فهماً عميقاً للقضايا الجوهرية ونتائجها المحتملة.
وينطلق التقرير في تقييم اتجاهات البيئة خلال العقدين المقبلين، من تغيُّر المناخ وأثره على فقدان الاستقرار في أكثر من مكان في العالم. ويشير إلى أن الاحترار العالمي وارتفاع مستوى سطح البحر والظواهر الجوية المتطرفة ستترك آثارها المادية على جميع الدول. وستتوزع التكاليف والتحديات بشكل غير متناسب على حساب الدول النامية، وستؤدي، مع التدهور البيئي، إلى زيادة المخاطر على الغذاء والمياه والصحة وأمن الطاقة.
ومع التوسع في ممارسات الزراعة والحراجة على نحو غير مستدام، سيزداد تدهور الأراضي مما يفاقم آثار تغيُّر المناخ. وكانت دراسة أجريت في 2019 خلُصت إلى مساهمة كل من إزالة الغابات وتدهور الأراضي في زيادة انبعاثات غازات الدفيئة العالمية الناتجة عن النشاط البشري بنحو 10 في المائة، عن طريق إطلاق الكربون المخزّن في الأشجار والتربة.
ويرى التقرير أن ضعف إدارة المياه داخل الدول وفيما بينها سيكون المحرّك الرئيسي للإجهاد المائي. ومع انخفاض هطول الأمطار أو زيادة عدم انتظامه، سيؤدي النمو السكاني والتنمية الاقتصادية واتّساع الري والممارسات الزراعية غير الفعالة إلى زيادة الطلب على المياه. وفي أكثر من مكان، ستقوم دول المنبع ببناء السدود والتحكم بمصادر المياه من دون التشاور مع دول المصبّ، كما في حالة سد النهضة الإثيوبي، مما يزيد من مخاطر الصراع.
ورغم انخفاض تلوث الهواء والماء في العديد من البلدان ذات الدخل المرتفع، يزداد التلوث على المستوى العالمي خاصةً في البلدان ذات الدخل المتوسط. وعلى غرار العوامل البيئية الأخرى، سيؤثر تلوُّث الهواء وتغيُّر المناخ على بعضهما البعض من خلال التفاعلات المعقّدة في الغلاف الجوي، حيث سيوفّر تغيُّر المناخ الظروف الجوية المناسبة لتشكّل الضباب الدخاني، وسيدفع إلى تراجع نوعية الهواء عن طريق زيادة تواتر حرائق الغابات.
ومن المرجح أن يؤدي تغيُّر أنماط هطول الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، وتسرّب المياه المالحة إلى التربة وأنظمة المياه الجوفية نتيجة ارتفاع منسوب مياه البحار والعواصف الساحلية، وزيادة الظواهر الجوية المتطرفة، إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي والمائي في بعض البلدان خلال العقدين المقبلين. وستكون المناطق التي لا تزال تعتمد على الزراعة البعلية أكثر عرضةً للخطر، مثل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأميركا الوسطى وبعض مناطق الأرجنتين والبرازيل وجنوب آسيا وأوستراليا. وعلى النقيض من ذلك، ستستفيد بعض مناطق خطوط العرض الأعلى، مثل كندا وشمال أوروبا وروسيا، من الاحترار العالمي بفضل مواسم النمو المطولة.
كما ستتعرض مصايد الأسماك للتهديد بفعل الصيد الجائر وتغيُّر المناخ، مما سيدفع الصيادين للإبحار إلى أماكن أبعد والتسلّل إلى المياه الإقليمية للدول الأخرى للحصول على الأسماك. ويهدّد ارتفاع درجات حرارة المحيطات بالقضاء على الشعاب المرجانية مما سيؤثر على صناعات الصيد والسياحة بشكل أكبر.
ومع انخفاض جودة الماء والهواء وقلّة الغذاء، إلى جانب التغيُّرات في نواقل الأمراض ومسببات المرض المنقولة بالمياه، ستزداد المخاطر على صحة الإنسان. وستكون الوفيات الناجمة عن التلوث أعلى في البلدان المتوسطة الدخل، لا سيما في شرق وجنوب آسيا. ومن المتوقع أن يؤدي تغيُّر المناخ إلى تغيير النطاق الجغرافي وتواتر تفشي الأمراض التي تصيب البشر والحيوانات والنباتات.
ومن الملاحظ أن التنوع الحيوي آخذ في الانخفاض بشكل غير مسبوق، مما سيهدّد الأمن الغذائي والصحي. ومن المحتمل أن يدفع ارتفاع درجات الحرارة إلى انقراض النباتات والحيوانات التي لا تستطيع النجاة في موائلها التقليدية، أو لا تتمكن من الانتقال بسرعة إلى مواقع جديدة، أو تقع تحت ضغط الأنواع الغازية.
ويتوقع التقرير أن يكون هناك تركيز متزايد على تخفيف انبعاثات غازات الدفيئة لتحقيق هدف "صفر انبعاثات"، باستخدام تقنيات الطاقة الجديدة وتقنيات إزالة ثاني أوكسيد الكربون. ومع اقتراب العالم من تجاوز عتبة 1.5 درجة مئوية في غضون السنوات العشرين المقبلة، ستزداد الدعوات لتبني أبحاث هندسة المناخ من أجل تبريد الكوكب، رغم العواقب الوخيمة المحتملة.
وسيزداد الجدل حول كيفية وسرعة الوصول إلى عالم محايد كربونياً، حيث تواجه البلدان خيارات صعبة لتنفيذ تخفيضات جذرية في الانبعاثات وتطبيق خطط تكيُّف مع تغيُّر المناخ. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الأعباء والمنافع لن تكون متساوية داخل البلدان وفي ما بينها، سينشأ سباق محموم يساهم في غياب الاستقرار ويرهق الاستعداد العسكري ويعزز الخلاف السياسي.
رغم أن السيناريوهات التي يتوقعها تقرير "الاتجاهات العالمية" ترسم مستقبلاً مظلماً، إلا أنها واقعية تعتمد على عوامل قائمة أو وشيكة الحصول، مثل تغيُّر المناخ واستنزاف الموارد الطبيعية. وهي إذا تُركت على حالها من دون معالجة ستؤدي إلى حالات طوارئ عالمية. لذا يحثّ التقرير على اعتماد حلول عاجلة لوقف التدهور وتجنُّب الكوارث قبل تفاقمها.