موجة الحر غير المسبوقة التي اجتاحت أوروبا هذا الصيف، وشهدت تسجيل درجات حرارة هي الأعلى في تاريخ بعض البلدان، ليست تقلّباً عادياً في حالة الطقس، وإنما اتجاه عام يتواصل سنة بعد سنة ويشير إلى حصول تغيُّر مناخي ظاهر للعيان.
هذه الوتيرة غير المسبوقة في تغيُّر المناخ لا تمثّل حالة وقتية عارضة، وفق ما تؤكده ثلاث أوراق بحثية نشرت مؤخراً في دورية "نيتشر"، تخلص إلى أن الاحترار الحالي لا مثيل له منذ ألفي سنة. وتعتبر الإحصاءات التي تضمنتها هذه الأبحاث أقوى إثبات حتى اليوم على تعاظم التغيُّر المناخي بسرعة قياسية تستلزم المعالجة الفورية من دون تأجيل.
وفيما تترك هذه التطورات المتسارعة أثرها الملموس في جميع الأرجاء، يواجه نحو ملياري شخص من الناس الأكثر فقراً حول العالم تهديداً استثنائياً بفقدان سبل العيش وخسارة الموطن لأسباب مختلفة، يأتي في مقدمها تغيُّر المناخ.
ويصف فيليب ألستون، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، ما نراه حالياً بأنه "عصر جديد من الفصل العنصري المناخي"، حيث يشتري الأغنياء لأنفسهم مخرجاً يهربون عن طريقه من ظواهر ارتفاع الحرارة والجوع، بينما يعاني الآخرون. ويضيف أنه حتى لو تسنّى للعالم تحقيق الأهداف المناخية الحالية، "فسيظل هناك عشرات الملايين من الفقراء، مما سيؤدي إلى حالات واسعة من النزوح والتعرض للجوع". والملفت أن الفقراء مسؤولون عن جزء بسيط فقط من الانبعاثات العالمية، وفي المقابل "يتحملون الوطأة الأكبر لتغيُّر المناخ، مع قدرة أقل على حماية أنفسهم من تبعاته".
كيف يتأثر الفقراء بتغيُّر المناخ؟
يؤدي تغيُّر المناخ إلى زيادة الضغط على بيئتنا، وكذلك على أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو يقوّض مكاسب التنمية ويؤدي إلى نقص في الضروريات الأساسية. وتفيد دراسة نشرت قبل أشهر أن التغيُّر المناخي أدى على مدار نصف القرن الماضي إلى تفاقم التفاوت بين دول العالم، إذ عرقل النمو في البلدان الأكثر فقراً، بينما أفضى على الأرجح إلى زيادة معدلات الرفاهية في بعضٍ من أكثر دول العالم ثراء.
ويشير باحثو جامعة ستانفورد في هذه الدراسة إلى أن الفجوة بين الدول الأشد فقراً وتلك الأكثر ثراءً تزيد الآن بنسبة 25 في المائة عمّا كانت ستصبح عليه لو لم تشهد الأرض ظاهرة الاحتباس الحراري وما ينتج عنها من ارتفاع لدرجة حرارة الكوكب.
ووفقاً لتقديرات سابقة، فقدت الأرض نحو ثلث الأراضي الصالحة للزراعة على مدار الأربعين عاماً الماضية. ويُعزى ذلك بشكل كبير إلى كوارث المناخ وضعف الحماية وخسارة المزيد من الأشجار والتربة كل عام. ويعيش أكثر من 1.3 مليار شخص على الأراضي الزراعية المتدهورة، مما يعرضهم لخطر تراجع الإنتاجية، الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الجوع والفقر والتشرد.
ومع تكرار الكوارث وارتفاع قوتها التدميرية، ازداد عدد الأشخاص المتضررين من نحو 100 مليون في 2015 إلى 204 ملايين في 2016، وتضاعفت الخسائر العالمية من 50 مليار دولار سنوياً في الثمانينيات إلى 200 مليار دولار خلال العقد الأخير. وجاءت سنة 2017 لتقرع ناقوس الخطر في هذا الشأن، إذ بلغت خسائر العالم 340 مليار دولار نتيجة الكوارث الطبيعية المدمرة. وهذه أرقام لا تستطيع المجتمعات الفقيرة تحمل تبعاتها.
وعلى سبيل المثال، شهدت الفيليبين إعصاراً مدمراً في سنة 2013 أثّر على 14 مليون شخص. وكانت مجتمعات عديدة ضربتها الأعاصير تعاني في الأساس ضعفاً في البنية التحتية، ولم تكن لديها القدرة على التعامل مع مثل هذا الحدث الكارثي، مما تسبب بزيادة حدة الفقر.
غالباً ما تكون المناطق التي تعاني من الفقر غير قادرة على التعافي من الكوارث الطبيعية من دون دعم مالي ولوجستي ضخم. ووفقاً لتقرير من منظمة أوكسفام، فعندما تضرب كارثة دولة مرتفعة الدخل يموت 23 شخصاً في المتوسط، في حين يموت 1052 شخصاً في البلدان الأقل نمواً.
ويتعرض الناس أيضاً للتهديد بسبب التغيُّرات التدريجية، مثل ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدل هطول الأمطار. وقد أثّرت حالات الجفاف وحدها على أكثر من مليار شخص خلال العقد الماضي. وتظهر بيانات 2017 الصادرة عن البنك الدولي أن الجفاف منذ 2001 تسبب في خسارة العالم كميات من المنتجات تكفي لإطعام 81 مليون شخص يومياً كل سنة، أي ما يعادل سكان بلد بحجم ألمانيا.
ولذلك يعد تغيُّر المناخ أحد الأسباب المحورية لنشوب الصراعات في جميع أنحاء العالم. فهو يؤدي إلى نقص الغذاء، ويهدد سبل عيش الناس، ويدفع بمجتمعات كاملة للنزوح عن مواطنها. وعندما لا تكون المؤسسات والحكومات قادرة على إدارة الضغوط أو امتصاص الصدمات الناتجة عن تغيُّر المناخ، تزداد المخاطر بفقدان الاستقرار.
ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، تؤدي التغيّرات في توقيت وكمية هطول الأمطار إلى تقويض إنتاج الغذاء وزيادة التنافس على الأراضي المتاحة للزراعة، مما يسهم في حصول توترات عرقية ونشوب النزاعات. وفي أماكن مثل وسط نيجيريا، تمثل ندرة الموارد تحدياً مزمناً يتأثر بتغيُّر المناخ، من خلال تراجع رقعة المراعي ونضوب موارد المياه، مما يؤدي إلى نشوب النزاعات المتكررة بين الرعاة والمزارعين. ويربط كثير من الباحثين بين تغيُّر المناخ والنزاعات المسلحة التي نشهدها في عالمنا العربي، لاسيما في سوريا.
مخاطر مستقبلية تفوق التوقعات
تستمر آثار تغيُّر المناخ في تجاوز توقعاتنا السابقة، حيث من المحتمل أن يصبح الحصول على المياه النظيفة أكثر محدودية، وسيكون خطر فقدان الأمن الغذائي أكبر مما هو عليه اليوم. وبحلول عام 2050، يمكن لتغيُّر المناخ أن يتسبب بزيادة عدد الأشخاص المعرّضين لخطر الجوع بنسبة تصل إلى 20 في المائة، لاسيما في أفريقيا. ومن المتوقع إجبار عشرات الملايين من الناس على ترك منازلهم في العقد المقبل نتيجة لتغيُّر المناخ، وسيؤدي ذلك إلى أكبر أزمة لاجئين يشهدها العالم على الإطلاق.
وفي الفترة ما بين 2030 و2050، من المتوقع أن يتسبب تغيُّر المناخ في وفاة 250 ألف شخص إضافي كل عام بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري، مع الاستمرار في تعريض الهواء النظيف ومياه الشرب المأمونة وإمدادات الغذاء للخطر.
وتسعى العديد من البلدان إلى تبنّي إجراءات مبتكرة للتكيف مع تغيُّر المناخ، كملاجئ الأعاصير في بنغلادش، وإعادة ترميم المفقود من أشجار المانغروف في فيجي، وأنظمة الإنذار المبكر للأمطار الغزيرة في ريو دي جانيرو. لكن هذه الجهود لن تثمر ما لم يكن هناك دمج لخطط التكيُّف مع برامج التنمية الوطنية لدعم النمو الاقتصادي والحد من الفقر وتحفيز الاستثمار على نطاق واسع.
وفي بعض المواقع، ستتطلب مواجهة الآثار المناخية تغييراً جذرياً في آلية إنتاج الغذاء وكيفية إدارة الأرض من أجل حماية مكاسب التنمية وتقليل خطر تصاعد الصراعات.
ومن المهم تسليط الضوء على قصص النجاح في تكيُّف العديد من المجتمعات مع آثار تغيُّر المناخ. ففي البرازيل مثلاً، زاد الباحثون من إنتاج القهوة بنسبة 20 في المائة عن طريق نقل الإنتاج إلى مناطق أقرب إلى غابات الأنواع الأصلية التي كانت تحمي النباتات من أشعة الشمس وارتفاع درجات الحرارة.
ومن ناحية أخرى يجب تسهيل التعاون وتبادل المعرفة بين البلدان الأفقر في الجنوب، التي تقف في الخطوط الأمامية للتكيُّف مع التغيُّرات المناخية. ويعمل "اتحاد جامعات البلدان الأقل نمواً" منذ مطلع 2017 لدعم تبادل المعرفة بين جامعات البلدان النامية ومعاهدها التدريبية. كما تقدم مبادرة "التكيُّف مع إفريقيا" مثالاً آخر على الجهد الفعال والمنسّق لتسريع إجراءات التكيُّف على نطاق واسع، من خلال مساعدة الحكومات على تطوير وتنفيذ خطط التكيُّف الوطنية، والوصول إلى تمويل ملائم للتصدي للتغيُّر المناخي، وتعزيز خدمات المعلومات المناخية.
إذا استمرت الاتجاهات الحالية المتسارعة للاحترار العالمي، فإن آثاره ستدفع 100 مليون شخص إضافي إلى الفقر بحلول عام 2030. والطرق المبتكرة التي يتعامل بها الأشخاص والمنظمات مع آثار تغيُّر المناخ على الفقراء أمر مشجع، لكنها لا تكفي وحدها ما لم تكن الدول الغنية جادة في خفض الانبعاثات ورفع الضرر.