Wednesday 27 Nov 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
مقالات
 
دون بِلْت (ناشونال جيوغرافيك) نهـر الأردن حاجز من ماء  
تشرين الأول (أكتوبر) 2010 / عدد 151
 النهر الذي يرتبط اسمه بالكتاب المقدَّس والسلام هو اليوم بعيد عن السلام. فمن منبعه الملطَّخ بآثار الحرب على سفوح جبل حرمون إلى مجراه الموحل نحو البحر الأحمر على بعد أكثر من 300 كيلومتر، يصارع نهر الأردن للبقاء وسط بيئة قاسية، حيث الناس يزرعون الألغام الأرضيّة ويتقاتلون على تلّة رمليّة. لقد كانت المياه على الدوام عزيزة في هذه المنطقة القاحلة. وها هو النزاع يتجدّد بين الاسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين على مياه النهر بعد ستّ سنين من الجفاف والازدياد السكّاني.
وسط هذا الواقع غير العادي، تَوجَّهتُ صبيحة يوم من أيام شهر تموز (يوليو) 2009 إلى النهر، حيث كان ثلاثة علماء ـ إسرائيلي وفلسطيني وأردني، مع مواكبة عسكرية ـ يقفون والمياه ترتفع حتى ركَبهم، وذلك على بعد نحو 65 كيلومتراً جنوب بحيرة الجليل، تحت الحطام المتقلقل للجسر الذي قُصف خلال حرب الأيام الستّة في حزيران (يونيو) 1967. وكان العلماء الثلاثة يمسحون النهر لحساب جمعيّة أصدقاء الأرض للشرق الأوسط، وهي منظمة غير حكومية مكرَّسة لإقامة السلام عبر النشاطات البيئية. إنه يوم قائظ في منطقة شهدت الحرب سابقاً. وقد استطاع أولئك الرجال ببراعة إخفاء هواجسهم من الاصابة بضربة شمس أو من سقوط قطعة إسمنت ضخمة عليهم أو من دَوسهم لغماً حمله التيّار إلى هناك.
"انظرْ، يا سامر، هذا الكائن الصغير"، يقول عالِم البيئة الاسرائيلي ساريغ غافني، الذي يعتمر قبّعة خضراء عريضة الحاشية، مخاطباً المهندس البيئي الأردني الشاب سامر تالوزي، فيما يُنعِم هذا النظرَ في كائن لافقاري صغير من القشريات وضعه غافني في وعاء زجاجي. ويعلّق تالوزي ضاحكاً: "إنه حَيّ صامد!"
على بعد أمتار قليلة يشقّ بَنان الشيخ، وهو عالِم نبات جريء ومَرِح من الضفّة الغربية، طريقه بصعوبة وشرود عكس التيّار في مياه النهر الموحلة، مسلّطاً آلة التصوير على شجرة مزْهرة مرتفعة وسط القصب الطويل وسواه من النبات النامي على ضفّتَي النهر. ويناديه غافني: "انتبه لخطواتك يا صديقي، حَذارِ أن تطأ لغماً".
إلى جانب الذخائر الحربية الفتاكة التي يحويها، يعاني هذا الجزء من نهر الأردن ـ وهو بِعَرض نحو سبعة أمتار وعمق أمتار قليلة ـ مقداراً من التلوُّث تغدو معه فرصة وجود الكائنات الحيّة ضئيلة جداً ومدعاة للابتهاج. وهذا عائد، في أحد جوانبه، إلى شح المياه، علماً أن نهر الأردن فقد نسبة 90 في المئة من مياهه خلال العقود الخمسة الأخيرة. وفي أعلى المجرى عند بحر الجليل، تتوزَّع مياه النهر العذبة على إسرائيل التي تَولَّت جرّ الماء إلى المدن والمزارع عبر قناتها الوطنية لنَقْل المياه، فيما تحتجز سدود في الأردن وسورية قسطاً من مياه روافد النهر يستخدم معظمها في الزراعة. هكذا لم يبقَ اليوم في المجرى الأسفل للنهر أثر للمياه النظيفة، بل كل ما هناك مزيج سامّ من المياه المالحة والنفايات السائلة المتدفقة من المجارير والمزارع.
 
وجهان للصراع على المياه
إنّ الصراع على نهر الأردن يمثّل إمكان نشوب صراع حول الماء في أيّ مكان من العالم. نحن نعيش على كوكب طالما شهد، طوال آلاف السنين، نزاعات بين الجيران على مياه الأنهار. (تجدر الاشارة إلى أن عبارة «خصم» في بعض اللغات الأوروبية، وهي rival، مشتقّة من كلمة rivalis اللاتينية، ومعناها الأصلي الخصام على نهر river). وهناك لائحة طويلة من مجاري المياه حول العالم التي تحفل بمناوشات بين الدول المجاورة لهذه المجاري. لنذكرْ، مثلاً، الصراع بين الهند وباكستان على نهر الإندوس، وبين إثيوبيا ومصر على النيل، وبين تركيا وسورية على الفرات، وبين بوتسوانا وناميبيا على أوكافانغو. وقد تبيّن لمجموعة باحثين من جامعة ولاية أوريغون الأميركية أنّ من بين 37 نزاعاً عسكرياً على المياه منذ 1950، هناك 32 نزاعاً جرت في منطقة الشرق الأوسط، وأن ثلاثين من هذه النزاعات جرت بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، وكان معظمها على مياه نهر الأردن وروافده، وهي تُمِدّ الملايين بأسباب الحياة من مياه شفة واستحمام وريّ.
وتعود النزاعات المسلَّحة على نهر الأردن إلى تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، وهي تدرك أن مصادر المياه التي تحتاجها تقع خارج حدودها. فبقاؤها وقفٌ على نهر الأردن الذي تقوم منابعه في سورية ولبنان وتصبّ معظم مياهه في بحيرة طبرية (بحر الجليل) فيما تأتي روافده من البلدان المجاورة، هذه البلدان التي تواجه أزمة مياه مماثلة، لذلك كان بقاؤها هي الأخرى في خطر. وهذا يعني أن النزاع على المياه بين إسرائيل وجيرانها أمر لا مفر منه. وفي ستينات القرن العشرين تلقّت سورية ضربات عسكرية من إسرائيل بعد محاولاتٍ سوريّة لجر مياه نهر بانياس، وهو أحد روافد نهر الأردن العليا في مرتفعات الجولان، كما وجّه العرب ضرباتهم إلى القناة الوطنية الاسرائيلية لنقل المياه. وكان أن أشعلت تلك الضربات المتبادلة فتيلاً لحرب الأيام الستة (1967). وكادت الحرب أن تقع بين إسرائيل والأردن عام 1979 للاستيلاء على امتداد رملي في نهر اليرموك. وفي العام 2000، تلقّى لبنان تهديدات متكررة من إسرائيل باستعدادها لقصف محطّات الري الزراعي على نهر الحاصباني جنوباً.
إلا أن هناك وجهاً آخر للصراع على المياه، هو أنه أفضى إلى حوارٍ أحياناً. ويلاحظ جدعون برومبرغ، المدير الاسرائيلي المشارك لجمعية أصدقاء الأرض في الشرق الأوسط، أن «مصادر المياه الرئيسية غير العابرة للحدود قليلة، الأمر الذي يسفر عن اتكال متبادل بين الدول». ويضيف أن المشاركة في المياه يمكن أن تكون معْبراً نحو السلام، لأنها تحثّ المعنيين على التعاون. ففي السبعينات، مثلاً، اتفق الأردن وإسرائيل ـ وهما في حالة حرب آنذاك ـ على كيفية تَقاسُم المياه. ولم يتوقف التعاون المائي بين إسرائيل والفلسطينيين حتى مع مواجهة سبُل السلام الأخرى حائطاً مسدوداً. ويقول تشاك لوسن، وهو مسؤول أميركي سابق عمل خلال التسعينات على مسائل المياه بين إسرائيل والفلسطينيين، إن "هذا الاتفاق يبدو مناقضاً للبديهة، لكن المياه من الأهمية بحيث لا يجوز التقاتل عليها. فبالرغم من الأوضاع السياسية، يحتاج الناس إلى الماء. وهذا حافز قوي لحل المشاكل".
 
سرقة مياه الفلسطينيين
في أحد أيام نيسان (أبريل) 2009، أخذني برومبرغ إلى النبع الطبيعي الذي يزوّد قرية عَوجا بالماء، تلك البلدة الفلسطينية ذات الـ4500 نسمة، المرتفعة فوق التلال الجرداء على بعد كيلومترات قليلة غرب نهر الأردن بالقرب من أريحا. ويستمد النبع ماءه من أمطار الشتاء، وينبجس وسط واحة صغيرة تكسوها الجلاميد. شققنا طريقنا بمشقّة على طرف القناة التي تحمل الماء بضعة كيلومترات الى القرية. وقال برومبرغ: "تعتمد زراعة عَوجا اعتماداً تاماً على هذه المياه. ومع جفاف النبع، لن يبقى هناك ماء للريّ".
وتَجْمَع شخصية برومبرغ البُعدَين النظري والسياسي العملاني. وهو وُلد في إسرائيل وترعرع في أوستراليا قبل عودته الى مسقط رأسه عام 1988 للمساهمة في عملية السلام في المنطقة. وعن طريق حَثّ حكومته على اقتسام المياه بِعَدْل، استطاع أن يوقظ السياسيين الاسرائيليين المتشددين، الذين يرون في المياه قضية أمن قومي، من سباتهم.
منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، أقامت إسرائيل عشرات المستوطنات في وادي نهر الأردن، أضيفت إلى نحو 120 مستوطنة في أمكنة أخرى من الضفة الغربية. وتتولى الشركة القومية الاسرائيلية للمياه «ميكوروت» تأمين الماء لسكان المستوطنات بعد حَفْرها 42 بئراً عميقة في الضفة لسد حاجات المدن الاسرائيلية. ويذهب تقرير أعدّه البنك الدولي عام 2009 إلى أن استهلاك الماء للفرد الواحد في إسرائيل يفوق معدل استهلاك الفرد الفلسطيني بأربعة أضعاف، وأن معظم هذا الفائض يُستخدم لري المزروعات. لكن الاسرائيليين يشككون في صحة هذا التقرير، قائلين إنهم يتجاوزون الفلسطينيين بمقدار ضعفين فقط، وإنهم يستخدمون الماء بحكمة. ومهما يكن الأمر، فإن المستوطنين الاسرائيليين في الضفة الغربية يحصلون على ما يكفي من الماء لملء أحواض السباحة ورش العشب وري مساحات كبيرة من الحقول والبيوت البلاستيكية الزراعية.
في المقابل، مُنع فلسطينيّو الضفة الغربية تحت الحكم العسكري الاسرائيلي من حفر الآبار الجوفيّة العميقة، فيما حُصِرَت مصادرهم المائية بالآبار السطحية والينابيع الطبيعية ومياه المطر التي تتبخَّر سريعاً في الهواء الصحراوي الجاف. وعندما تنضب هذه الموارد صيفاً، يقول برومبرغ إنه لا يبقى أمام أهالي عَوجا سوى شراء المياه من إسرائيل مقابل دولار واحد لكل 0,75 متر مكعب. وهم بهذا إنما يبتاعون مياههم الجوفية التي ضَخَّتها شركة ميكوروت فأنقصت مخزونهم المائي الجوفي وجففت آبارهم وينابيعهم.
وفيما كنت وبرومبرغ نتّجه نحو نبع عَوجا شرقاً، صادَفنا مجموعة من المضخّات والأنابيب خلف سياج من الأسلاك الشائكة، تستخدمها شركة ميكوروت لحفر بئر في طبقة صخرية على عمق 600 متر. وعَلَّق برومبرغ على المشهد بالآتي: «المواسير الزرقاء والبيضاء هي الشهادة على سرقة المياه في هذا الجزء من العالم». غير أن نوح كينارتي، كبير المفاوضين الاسرائيليين على الماء، لا يوافق على هذا الرأي، قائلاً إن المياه الجوفية لا تعرف حدوداً، وإن الاسرائيليين أيضاً لا يحصلون على الماء بسهولة. وأضاف، وهو في منزله القائم ضمن مجمّع سكني قرب بحيرة طبرية: "يظن الفلسطينيون أن أي قطرة ماء تسقط فوق الضفة الغربية ملك لهم. لكننا، في محادثات أوسلو، اتفقنا على تقاسم المياه".
 
"هذا هو الظلم عينه"
بدأت جمعية أصدقاء الأرض للشرق الأوسط تجابه هذه المسائل المعقدة عام 2001، خلال مرحلة من المناوشات الحادة بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وبتركيزها أولاً على الطرائق الآيلة إلى تحسين نوعية المياه، استطاعت بناء الثقة وتوفير الدعم عبر مادة تربوية أحدثتها في برنامج التعليم الأساسي تحت اسم «جيران الماء الطيّبين». وهي تعمل على إقامة حديقة للسلام فوق إحدى الجزر وسط النهر. ولعل أهم ما أنجزته حَثّ الحكومات على تنفيذ البنود المتعلقة بتقاسم المياه في اتفاقات السلام، سعياً إلى جعل نهر الأردن نموذجاً لتحويل الأنهار من عامل حرب إلى عامل سلام. وحول هذا الأمر يقول منقذ مهيار، مدير الجمعية في الأردن: "الناس حول العالم يربطون اسم نهر الأردن بالسلام. ونحن نفعل ما في وسعنا ليكون هذا صحيحاً".
عند عودتي إلى قرية عَوجا مطلع أيار (مايو) 2009، كان نبعها قد صار وَشَلاً، وآثار الجفاف ظاهرة في كل مكان. فالحقول المحيطة باتت مستنفدة وخالية. ورأيت مجموعة من الفتية يلعبون كرة القدم وسط دوّامة من الغبار المرتفع سحاباً فوق رؤوسهم.
وتوقفت عند منزل مزارع متقدم في السن، اسمه محمد سلامة، بادرني قائلاً: «لم تَجْرِ المياه إلى هذا البيت طوال الأسابيع الخمسة الأخيرة. وأنا الآن أبتاع برميل ماء يومياً من شركة ميكوروت لسد حاجات عائلتي وخرافي وجدائي وجيادي». كذلك، عليه شراء علف لماشيته، إذْ لا ماء هناك لري المحاصيل. ومن أجل تأمين هذه المصاريف، اضطر إلى بيع عدد من رؤوس الماشية، كما اضطر أبناؤه إلى العمل في مستوطنة إسرائيلية حيث يروون الخضار والفاكهة والحبوب بالمياه نفسها المحظورة عليهم. وقال محمد وهو يسكب لي كأس ماء من قنينة بلاستيك تحمل اسم ميكوروت: "بالله عليك، ما الذي نستطيع فعله؟ هذا هو الظلم عينه، لكن لا نقوى على شيء لدفعه عنا".
كان ذلك اليوم صافياً. ومن نافذة البيت الأمامية رحنا ننظر إلى الوادي الجاف الظامئ ووراءه إلى النبات الذاوي على ضفّتَي المجرى الضيّق لنهر الأردن. وخُيِّل إلينا للوهلة الأولى أن مياه النهر في متناول أيدينا، إلى أن قطع محمد حبل الصمت بقوله: "يلزمني لبلوغ ذيّاك المكان أن أقفز فوق سياج معدني مكهرَب وأعبر حقل ألغام وأحارب الجيش الاسرائيلي. ومعنى هذا بدء حرب على الماء".
دون بِلْت (Don Belt) هو كبير المحرِّرين للشؤون الخارجية في مجلة «ناشونال جيوغرافيك». صدر مقاله هذا في عدد نيسان (أبريل) 2010 من المجلة، وهو عدد خاص بالشؤون المائية. وحصل المنتدى العربي للبيئة والتنمية على إذن بترجمته ونشره في تقريره السنوي الذي يصدر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010.
 

 
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
عبدالهادي نجّار البيئة في 2018: كوارث مناخية وحرب على البلاستيك
وسيم حسن (الرياض) القصيبي: أزمة مياه قد تتحول الى كارثة
اسطنبول - "البيئة والتنمية" المؤتمر البرلماني العالمي للمياه
البيئة والتنمية طاقة عطشى
فيكي هنتلي (لندن) كهرباء من قلب جبل
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.