الدكتور مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيذي حتى عام 1992. شغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ»يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد). عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكراته، وخص مجلة «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، الذي ينشر حصرياً في حلقات. في هذه الحلقة يروي مفاوضات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر
مصطفى كمال طلبه
في أعقاب حالة الجفاف التي تعرضت لها أفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة من 1968 الى 1973، طالبت الدول الأفريقية الجمعية العامة للأمم المتحدة بتنظيم مؤتمر عن «التصحر» (desertification). وكانت هذه أول مرة يستخدم فيها هذا المصطلح، ولم يكن له تعريف محدد، غير أن المقصود به كان التعبير عن تدهور الأراضي الذي نتج عن فترة الجفاف الشديد. وافقت الجمعية العامة على ذلك عام 1974، وأناطت ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) الإعداد لعقد المؤتمر.
وطلبت المجموعة الأفريقية أن أكون أنا سكرتيراً عاماً للمؤتمر بصفتي أفريقياً، وكنت آنذاك نائباً للمدير التنفيذي لـ«يونيب».
شكلنا أمانة صغيرة للمؤتمر رأسها زميل عزيز كفء من السودان هو الدكتور جعفر كرار. ودعوت عدداً من كبار الأساتذة من أنحـاء العالــم لتشكيل لجنة استشارية تساعدني في الإعداد للمؤتمر. وقبل هؤلاء الأساتذة طلبي، وعلى رأسهم أخي وصديق عمري المرحوم الدكتور محمد عبدالفتـاح القصاص، إلى جانب الدكتـور جيلبرت هوايت من جامعة أريزونا والدكتور ريد برايسون من جامعة ويسكونسن في الولايات المتحدة والدكتور مارتن هولغيت من المملكة المتحدة وعدد كبير غيرهم، وكلهم ثقات في مجالات تخصصهم.
استمرت هذه اللجنة الاستشارية في اجتماعاتها الدورية أكثر من سنتين، وانتهت الى وضع مشروع برنامج عمل للعرض على المؤتمر، تضمن أمرين أساسيين:
أولاً، تعريف التصحر على أنه انخفاض إنتاجية التربة الى صفر اقتصادياً، بمعنى أن كل ما ينفق على الإنتاج في تلك التربة يكون عائده مساوياً فقط للمنصرف، وأن التصحر يأتي عن طريق سوء استخدام الأرض الزراعية أو استغلالها لغير أغراض الزراعة كإقامة المباني والطرق والمطارات، إضافة الى تأثير الجفاف وشح المياه.
ثانياً، أن كلفة استمرار التصحر هي خسارة قدرها أربعون بليون دولار سنوياً، بينما يكلف تنفيذ البرنامج المقترح للحد من زحف التصحر 2.4 بليون دولار سنوياً.
مشكلة أكبر من إقليمية
عند انعقاد المؤتمر عام 1977 في نيروبي قابلتنا أول صعوبة، وهي أن الدول الصناعية كانت تعتبر التصحر مشكلة إقليمية تخص أفريقيا وحدها. ولما شرح العلماء أن التصحر يصيب أكثر من قارة وأن الغرب ليس بعيداً عن آثاره، اذ يضطر الفقراء والجوعى في أفريقيا الى الهروب منها شمالاً، بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، ليصلوا الى أوروبا. عندئذ فقط أدركت الدول الصناعية أن المشكلة أكبر من أن تكون إقليمية، ووافقت على استعراض مشروع البرنامج الذي قدمتُه مع اللجنة الاستشارية.
جرت مناقشات جادة وموضوعية، وعدل المشروع طبقاً للملاحظات التي قدمت، وأقر المؤتمر البرنامج المعدل. وفجأة طلب رئيس وفد السودان الكلمة، وكانت السودان ترأس مجموعة الـ 77 أثناء المؤتمر. قال إن مجموعة الـ77 تطالب بإنشاء حساب خاص لمساعدة الدول المتضررة من التصحر على تنفيذ البرنامج الذي أقره المؤتمر. تم ذلك من دون أي تشاور معي بصفتي سكرتير عام المؤتمر وآتياً من دولة نامية متأثرة بالتصحر. طبعاً رفضت كل الدول الصناعية ذلك، وأصدر المؤتمر قراراً ـ حصل على الغالبية بمساندة الدول النامية له ـ بإنشاء حساب خاص. تبرعت تشيلي بمبلغ مئتي ألف دولار للحساب، ولم تتبرع أي دولة أخرى غيرها. استمر الوضع كذلك أكثر من أربع سنوات، حتى اضطررت أن أعرض على مجلس المحافظين في «يونيب» أن يقترح على الجمعية العامة للأمم المتحدة إقفال الحساب. ووافق المجلس ثم الجمعية العامة على ذلك.
إنشاء مرفق البيئة العالمية
استمر «يونيب» في تنفيذ البرنامج الذي أقره المؤتمر، بمساعدات فنية مستمرة من الدكتور محمد القصاص ومالية من الصندوق النحيل للبيئة، الى أن جاء عام 1992 وعقد مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو في البرازيل الذي أقر مبدأ التنمية المستدامة وخطة عمل القرن الحادي والعشرين (Agenda 21). وفُتحت اتفاقيتان للتوقيع أثناء المؤتمر: اتفاقية تغير المناخ واتفاقية التنوع الحيوي. وأوصى المؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة ببدء المفاوضات من أجل الوصول الى اتفاقية لمواجهة التصحر. وفعلاً شكلت الجمعية العامة أمانة فنية لتلك المفاوضات كان مستشارها الفني مرة أخرى الدكـتور القصاص، الى أن تم اعـداد اتفاقيـة التصحـر.
أنشئ مـرفق البيئـة العالمية (GEF) عام 1992 ليصبح مصدر تمويل المساعدات للدول النامية من أجل تنفيذ اتفاقتي تغير المناخ وحماية التنوع البيولوجي، اضافة الى دعم مشاريع المياه الدولية ومعاونة دول الاتحاد السوفياتي السابق التي لا يشملها التمويل من صندوق بروتوكول مونتريال. تم إنشاء المرفق بعد مشاورات مضنية بين رؤساء البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وفشلت خلال تلك المشاورات في ضم موضوع تدهور الأراضي الى الأنشطة التي يمولها المرفق، اذ لم يكن هناك أي اتفاقية ملزمة بعد لمكافحة التصحر.
عند إقرار اتفاقية التصحر، لم تطلب الدول التي أقرتها أن يكون مرفق البيئة العالمية هو مصدر تمويل تنفيذ الاتفاقية، ربما على أمل إنشاء صندوق خاص لذلك على نسق صندوق اتفاقية مونتريال.
استمر تنفيذ اتفاقية التصحر بصورة ضعيفة جداً حتى عام 2002، حين عقد مؤتمر قمة التنمية المستدامة في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا. هناك استطعنا، بجهد خارق، إضافة «اتفاقية التصحر» الى القضايا التي يمولها مرفق البيئة العالمية. وقد سبق التصحر الى هذا التمويل اتفاقية الملوثات العضوية الثابتة (POPs).
مؤتمرات المياه والمستوطنات البشرية والغذاء والسكان والمرأة
عقد في العام 1977، بعد مؤتمر التصحر، مؤتمر الأمم المتحدة للمياه في مدينة ماردل بلاتا في الأرجنتين. وصدرت عنه خطة عمل، ولكن لم تُنشأ أي منظمة جديدة للإشراف على تنفيذها.
وفي العام ذاته عقد مؤتمر المستوطنات البشرية في مدينة فانكوفر في كندا، وأصدر خطة عمل، واقترح إنشاء هيئة جديدة في الأمم المتحدة لتنفيذها. أقرت الجمعية العامة خطة العمل، وأجلت اتخاذ قرار بشأن كيان جديد للإشراف على تنفيذها الى العام 1978 حين قررت إنشاء مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (Habitat). ضم المركز الجديد مؤسسة المستوطنات البشرية التي أنشأها «يونيب» في بداية عهده خلال فترة رئاسة موريس سترونغ، ومركز بحوث البناء والإسكان الذي كان جزءاً من الأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
أنشئ «هابيتات» واختيرت له نيروبي مقراً. جاء ذلك في الفترة التي كنا ننشئ فيها المبنى الجديد للأمم المتحدة في نيروبي، وأقيمت له مكاتب مماثلة لمكاتب «يونيب».
سبق هذه المؤتمرات الثلاثة مؤتمر الغذاء العالمي الذي عقدته منظمة الأغذية والزراعة عام 1974، ثم جاء مؤتمر التصحر ومؤتمر المياه، ثم مؤتمر السكان ومؤتمر المرأة. وأظهرت كل التقارير التي حللت تلك المؤتمرات أن مؤتمر التصحر كان أفضلها جميعاً في الإعداد العلمي. كان هذا بفضل تلك النخبة المتميزة من العلماء الذين قبلوا دعوتي بطلب المعاونة منهم في الإعداد للمؤتمر، وبفضل المتابعة المستمرة لأخي المرحوم الدكتور محمد القصاص.