كثير من الجزائريين هجروا الأرياف ونبذوا خدمة الأرض. لكن قلة قررت خوض تجربة الاستصلاح بزرع مساحات واسعة بعيداً عن صخب المدينة وأجوائها الملوثة. وقد راهن هؤلاء على أراض عذراء لتكون في المستقبل رئتين للمدن الآخذة في التوسع، وأيضاً مصدراً هاماً يساهم في انتعاش قطاع الزراعة وحفظ التنوع البيولوجي.
الوجهة: الجنوب الجزائري، وبالتحديد واد متليلي الشعانبة. تحركت إرادة الناس لتحرر الأراضي من هيمنة كثبان الرمال. ولطالما عشق ساكن هذه المنطقة ركوب الصعاب. فعلى بعد 40 كيلومتراً من قلب مدينة غرداية، تتفرع طريق صحراوية تؤدي الى عرق صخري انتصبت فيه بئر ارتوازية بعمق 500 متر، ما زال ماؤها العذب الفرات يملأ الدلاء. في تلك المنطقة مشروع استصلاح اختيرت له النخلة كدعامة. ولحسن الحظ، اجتمعت كل الظروف المؤاتية، من توفر الماء العذب الخالي من الأملاح، الى طبيعة التربة ذات المكونات المتنوعة وأهمها الحجارة التي تسمح بتوغل الجذور وتمنع تشكل طبقة من الأملاح على السطح. ووقع الاختيار على النخلة من نوع "دقلة نور"، فهي الأنسب في مثل هذه العروق الصحراوية.
كانت البداية بتهيئة مساحة عشرة هكتارات غرست فيها 700 فسيلة خضعت للفحص خشية وجود أمراض، أفتكها مرض البيوض، ولأن مقاومة الفسائل للرياح تكون ضعيفة جداً في المراحل الأولى فتقتلعها. ويتدخل الفلاح لتثبيت الفسائل كلما اقتضت الضرورة، بوضع كومة من الرمل حولها مع مراعاة عدم المساس بلب الفسيلة لضمان التهوئة الكافية. وعلى طول محيط الاستصلاح صفت مصدات للرياح من جريد النخل، وغرست أشجار الزيتون التي أثبتت ميدانياً مقاومتها لنوبات الجفاف فترات طويلة.
ولسقي هذه الهكتارات، لجأ الفلاحون الى التقطير كنظام اقتصادي وفعال. فأضافوا الى البئر الارتوازية مضخة موصلة بقناة رئيسية تخرج منها تفرعات تصل مباشرة الى النبات، قاطعة المجال أمام الأعشاب الضارة مثل الخز الذي ظهر في المرحلة الأولى، حين كان الاعتماد على تخزين الماء في حوض كبير مفتوح.
تلقيح وإبادة آفات بتقنيات متوارثة
ما زال الفلاحون يعتمدون على التلقيح التقليدي، مستثمرين في ذلك ممارسات أملتها التجرية، كحسن اختيار موقع النخل المذكر الحامل لغبار الطلع (ذكار) حسب اتجاه الرياح (لكل 500 نخلة مؤنثة هناك 10 نخلات مذكرة)، باعتبار الرياح أهم العوامل الطبيعية التي تتدخل في عملية التلقيح. وتوسع ذلك ليشمل تربية النحل الملقَّح، وغرس البصل الذي تجلب رائحته حشرات تحمل بين أجنحتها وعلى أطرافها غبار الطلع، فتساعد هي كذلك في عملية التلقيح.
وتبقى أنظار الفلاحين موجهة الى الطور الأول لظهور الثمار، المسماة محلياً رشوم، في الفترة بين أيار (مايو) وحزيران (يونيو). فقد تتعرض لهجوم عنكبوت تعرف في الجزائر باسم "بوفروة"، تبني عشها في شكل خيوط مغزلية بيضاء أو رمادية حول الثمرة مانعة وصول الضوء اليها، فيتسبب ذلك في تعطل عملية البناء الضوئي (التحليل الكلوروفيلي)، مما يؤدي الى تباطؤ النمو ومن ثم توقفه.
وليس هذا وحده ما يتهدد النخيل، فهناك أيضاً دودة التمر، والفطريات التي تنتشر في شكل نقط سوداء وبيضاء على طول الجريد والثمار، ويكمن خطرها في سرعة انتقالها من نخلة الى أخرى ومن حقل الى آخر. ويتصدر مرض البيوض قائمة أعداء النخلة، ولحسن الحظ لم تسجل أي حالة هذه السنة. وقد فطن كثير من الفلاحين الى فعالية الجير حول جذع النخلة في القضاء على معظم الآفات. فهو غير مكلف وليست له أضرار جانبية.
وككل نبات، تحتاج النخلة الى مواد عضوية مسمِّدة تضمن لها النمو الجيد. وقد بينت الممارسة أن ليس هناك أفضل من روث الإبل "الوقيد"، وبعض قطع الحديد التي تدفن في التراب على بعد سنتيمترات من الجذر الرئيسي.
عند فصل الفسيلة من النخلة الأم، تردد عبارات وأهازيج متوارثة من التراث الشعبي. إنها لحظة ميلاد حياة جديدة. وتجري عملية الفصل بكل دقة ومهارة وبأدوات يشترط أن تكون حادة ومعقمة بالنار. وفور انتهائها يدهن موضع القطع بمادة دسمة منعاً لدخول الماء الذي يؤذي جذر النخلة. وكان الفلاحون في الماضي يستعملون الطين مع الاسمنت.
بفصلها عن النخلة الأم، تبدأ الفسيلة مرحلة جديدة من عمرها، تحددها التربة الأولى التي تحتضنها. وهنا يفضل الفلاحون، بحكم خبرتهم ودرايتهم بالنخيل، ملء حفرة الغرس بقليل من الرمل الصافي، يكون تحته دبال من بقايا الإبل. وبعد خمس سنوات من النمو يتبين للفلاح إن كان قد وفق في اختيار النوع إذ تعطي النخلة أولى ثمارها التي تتحسن في السنوات التالية شرط توفر العناية الكافية.
ويتطلع فلاحو الاستصلاح الى ما قد يقدمه لهم البحث العلمي من حلول لمشاكلهم. فهم يخشون خسارة أعداد كبيرة من النخيل زاد ارتفاعها الى حد صار من الصعب الاهتمام بها. ودليل على ذلك حقول وبساتين أهملت فقلّ منتوجها وقيل إن نخلها قد هرم، في حين أن النخلة تعمر طويلاً. هذه حجة يتخذها البعض لتبرير زحف الاسمنت. ومن بين المشاكل التي تنتظر حلولاً غزو الأفاعي بمعدل 80 أفعى للحقل في كل موسم، والجربوع الذي يتكاثر كلما تم القضاء على الأفاعي.
المميز في مشاريع الاستصلاح هذه قلة استخدام الكيميائيات إلا في حالات محدودة. فالعشب الضار يقتلعه الماعز، ولكن تحت مراقبة الفلاحين، لأن هذا الحيوان إذا ترك للأخضر لا يبقي منه شيئاً. والفضل دائماً للمبتدئ وإن أحسن المقتدي. فهؤلاء الرجال دخلوا هذه الأرض صحراء، وها هي اليوم مساحات شاسعة تتدفق عطاء وفضاءات لا تدركها الأبصار، ماء وطيور وأغنام وحركة دؤوب. وأكثر من هذا، توسعت التجربة لتشمل، الى النخل، أشجاراً مثمرة مثل التفاح والاجاص والعنب والتوت واللوز والموز والحمضيات، تسقى كلها بالتقطير. وأصبحت هذه الأراضي بحق جنة تشفي غليل المشتاق الى هواء نقي، وتستحق فعلاً عناء الزيارة والكتابة.
الرهانات المستقبلية
في السنوات الأخيرة أصبح الجنوب الجزائري قبلة للمستثمرين، خاصة في مجال الفلاحة أو ما يسمى بالاستصلاح. فقد بينت الدراسات أنه يتربع على خزانات واسعة للمياه الجوفية تكفي الآبار الارتوازية لاستغلالها دون استعمال للطاقة المكلفة. كما يتيح اختلاف الظروف الطبيعية إمكانات كبيرة لتنوع المحاصيل الزراعية. وتتميز مساحة الجنوب الشاسعة بتنوع تضاريسها، من جبال ورمال وعروق. ويتخرج من المعاهد الفلاحية في البلاد ألوف المهندسين والتقنيين. ولكن ما زال قطاع النفط صمام مداخيل الحكومة، فهو يمثل 30 في المئة من الناتج الوطني الخام و95 في المئة من مداخيل التصدير.
وقد تبنت الحكومة في الفترة الأخيرة استراتيجية للنهوض بقطاع الفلاحة. ويعوَّل كثيراً على الزراعات الاستراتيجية، كالقمح والكرمة والبطاطا، التي نجحت زراعتها بكميات معتبرة في منطقة وادي سوف عند الحدود التونسية. ولكن في غياب التخطيط أصبح فائض الانتاج عبئاً على الفلاحين، حيث لا توجد مؤسسات تتكفل بعملية التخزين والتسويق والصناعات الغذائية التحويلية.
غداة الاستقلال، انتهجت الحكومة الجزائرية "ثورة زراعية" أعادت الاعتبار للفلاح، فحولته من خادم محروم من أدنى شروط العيش الكريم الى مالك ينتج ويستفيد من خيرات أرضه. وشهدت الفترة الممتدة بين 1972 و1978 انطلاق أهم المخططات بإنشاء تعاونيات تتكفل بفائض الانتاج وتنسيق الجهود بين المسؤولين والفلاحين والنظر في هموم هؤلاء. ولكن عدم الاستمرارية في تطبيق هذه المخططات، وسوء التنفيذ أحياناً، كانا سببين لتأخر هذا القطاع وتخبطه في عدة مشاكل. فبحسب ذوي الاختصاص، سجلت عدة نقائص، كغياب التشجيع المادي للعمال، مما دفع الى الهجرة الزراعية والريفية للفئة الأحسن تأهيلاً التي انتقلت الى القطاعات الصناعية والخدماتية. أما من بقوا في خدمة الأرض فكانوا يفتقرون الى الخبرة والتأهيل التقني ولم يستفيدوا من التقنيات الحديثة.
وظهرت هنا وهناك تجارب منفردة اعتمدت على خبرة وحنكة أشخاص عايشوا قطاع الفلاحة ميدانياً في مختلف مراحله. ومن هؤلاء السيد الطاهر سبقاق الذي التقيناه وتعرفنا الى مجهوداته المجبولة بالتضحية والصبر على مدى سنوات. فهو باشر عمله كإداري في التعاونيات الفلاحية، ليجد نفسه في قلب الميدان يقدم إرشادات وخدمات للفلاحين ويتابع المحاصيل عن قرب ويقيّم المشاريع دورياً. ولم يكتفِ بما لديه من خبرة ومعارف، بل بادر الى الاتصال بباحثين في الجزائر وخارجها، وبمؤسسات مثل معهد الفلاحة في الحراش ومعهد الفلاحة في ورقلة وشركات أجنبية. وعمل حتى على توطيد العلاقات مع مستثمرين أجانب بغية كشف مزايا الاستثمار في مجال الفلاحة في الجنوب الجزائري. وحماية البيئة كركيزة للتنمية المستدامة هي ضمن أولويات رسالة التوعية والإرشاد التي يحملها. وهو يشرح للفلاحين أضرار المبيدات والأسمدة الكيميائية، ويرشدهم الى البدائل الصديقة للبيئة كالأسمدة الورقية ذات المردود العالي. كما يروِّج لنظام السقي بالتقطير، الملائم للمناخ الصحراوي من حيث منع التبخر والاقتصاد في استهلاك الماء وتوفير الجهد الانساني.
بلادنا تحتاج الى خبرائها الزراعيين، أبناء البلد الذين يحبون أرضهم. وللجنوب الجزائري مستقبل واعد بالزراعة، المستقبل هو للزراعة، ولكن في ظل استراتيجية رشيدة تمنح تسهيلات للفلاحين، وتحاسبهم أيضاً، وتأخذ في الاعتبار كل الامكانات المتوفرة، وهي كثيرة لو تصدق الارادة.