أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022 سنةً دوليةً لمصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية. ويمثّل هذا الإعلان اعترافاً مهماً بملايين صغار الصيادين ومزارعي الأسماك الذين يقدمون منتجات صحيّة ومغذيّة لمليارات الأشخاص حول العالم، كما يسلّط الضوء على أهمية استدامة مصايد الأسماك كإحدى القضايا الأساسية لمستقبل التنوُّع البيولوجي.
وتعتمد الحلول الحالية لتقليل التراجع في أعداد الأسماك وضمان ازدهار الأرصدة السمكية على لوائح الصيد الصارمة وأخلاقيات العاملين في هذا القطاع. ومع ذلك، تُظهِر هذه الحلول نتائج متباينة تؤكد الحاجة إلى نهج جديد لمعالجة قضايا الصيد الجائر وحماية الحياة المائية.
تراجع في مصايد الأسماك المستدامة
تُعدّ أنشطة الصيد غير المستدامة مسؤولة عالمياً عن خسارة 11 إلى 26 مليون طن من الأسماك سنوياً، وهي كمية تبلغ قيمتها الاقتصادية نحو 10 إلى 23 مليار دولار. ويكون النشاط غير مستدام حين تفوق الأسماك والأحياء المائية التي يتم اصطيادها في المواقع الطبيعية الكمية التي يمكن تعويضها بإنتاجها من جديد. وللحدّ من تأثير أنشطة الصيد المدمرة، جرى إدراجها تحت الغاية 4 من الهدف 14 الخاص ببرنامج عمل التنمية المستدامة للأمم المتحدة. وهي تتضمن الدعوة إلى "تنظيم الصيد على نحو فعّال، وإنهاء الصيد المفرط والصيد غير القانوني وغير المبلّغ عنه وغير المنظّم وممارسات الصيد المدمِّرة، وتنفيذ خطط إدارة قائمة على العِلم، من أجل إعادة الأرصدة السمكية إلى ما كانت عليه في أقرب وقت ممكن".
وكان قطاع مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية توسّع بشكل كبير خلال العقود الماضية. ووصل إجمالي الإنتاج والتجارة والاستهلاك إلى رقم قياسي غير مسبوق في 2018، حيث بلغت كمية الأسماك والقشريات والرخويات والحيوانات المائية الأخرى، باستثناء الثدييات والزواحف والنباتات المائية، التي جرى صيدها في تلك السنة نحو 179 مليون طن.
ومنذ أوائل التسعينيات، كان معظم النمو في الإنتاج من تربية الأحياء المائية، في حين ظل إنتاج المصايد الطبيعية مستقراً نسبياً مع بعض النمو الأساسي في ما يتعلّق بالصيد الداخلي. وتُعتبر التنمية المستدامة لتربية الأحياء المائية والإدارة الفعّالة للمصايد ضرورية لاستمرار النمو في هذا القطاع.
ومع ذلك، فإن النجاحات التي تحققت في بعض البلدان والمناطق لم تكن كافية لعكس الاتجاه العالمي في التفريط بمخزونات الصيد. فخلال الفترة بين 1990 و2017 تراجعت نسبة الأرصدة السمكية الموجودة ضمن المستويات المستدامة بيولوجياً من 90 في المائة إلى 65.8 في المائة.
وتقدِّر أحدث البيانات الصادرة مؤخراً عن وزارة مصايد الأسماك الإندونيسية مخزون الأسماك في المياه الوطنية بنحو 12 مليون طن، بانخفاض مقداره 4 في المائة تقريباً عن 12.5 مليون طن جرى تقديرها في 2017. وتشير البيانات أيضاً إلى أن 53 في المائة من مناطق إدارة مصايد الأسماك الإحدى عشرة في البلاد هي مستغلة بالكامل، مما يؤكد ضرورة فرض رقابة أكثر صرامة عليها، حيث كانت النسبة في 2017 لا تتجاوز 44 في المائة.
وفيما ترى اللجنة الوطنية لبحوث الموارد السمكية في إندونيسيا أن هذه البيانات لا تعكس انخفاضاً فعلياً في مخزون الأسماك، بل تمثّل تحسناً في منهجية التقييم، يقول مراقبون بحريون إن الأرقام مثيرة للقلق في ظل رغبة وزارة الثروة السمكية بزيادة الإنتاج، فيما وصلت بعض المصايد إلى طاقتها الإنتاجية القصوى.
وتتضمن إحدى الخطط الرئيسية للوزارة إعادة فتح مناطق الصيد في البلاد أمام السفن التي يموّلها مستثمرون أجانب، علماً أن هذه السفن كانت مسؤولة في السابق عن استنزاف مخزون الأسماك على مدار عدة سنوات. كما تدرس الوزارة تخصيص مناطق محددة للصيد ومناطق أخرى لإكثار الأسماك وحضانتها.
وتمثّل البحار المحيطة بإندونيسيا موطناً لأحد أكثر مجتمعات الأحياء البحرية تنوعاً في العالم. وتوظّف صناعة صيد الأسماك في البلاد نحو 12 مليون مواطن. كما تسجّل المياه الإندونيسية أعلى كمية إنتاج من الصيد البحري في العالم بعد الصين، ويساهمان مع بيرو والهند وروسيا والولايات المتحدة وفيتنام في نصف الصيد البحري العالمي الذي يقارب 85 مليون طن.
ولا تقتصر الهيمنة الآسيوية على الصيد البحري، إذ تسيطر القارة الصفراء منذ عقدين على الإنتاج العالمي من الأحياء المائية المستزرعة بنسبة 89 في المائة. ومن بين البلدان المنتجة الرئيسية، عززت الصين والهند وإندونيسيا وفيتنام وبنغلادش ومصر والنروج وشيلي حصتها من الإنتاج الإقليمي أو العالمي بدرجات متفاوتة خلال السنوات العشرين الماضية.
وقد أدى الاستزراع السمكي إلى توسيع نطاق توافر الأسماك في المناطق والبلدان التي لديها إمكانيات محدودة أو لا تصل إلى الأنواع المستزرعة، وغالباً ما كان هذا التوسع بأسعار أرخص مما ساهم في تحسين التغذية والأمن الغذائي. وبفضل زيادة الإنتاج السمكي، والتطورات التقنية، وارتفاع مستويات الدخل، وتقليل الفاقد والهدر، وزيادة الوعي بالفوائد الصحية لتناول الأسماك، يتجه العالم أكثر فأكثر نحو الأحياء المائية كمصدر أساسي للبروتين. ومع ذلك، فإن مؤشرات التجارة في هذا القطاع تراجعت خلال السنتين الماضيتين بعد تفشّي جائحة "كوفيد-19" بسبب ظروف الإغلاق وانقطاع سلاسل التوريد.
التحوّل الأزرق لتعزيز استدامة الصيد
تركّز طبعة 2022 من تقرير "حالة مصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية في العالم" على التحوّل الأزرق، وهو استراتيجية تهدف إلى تعزيز أنظمة الأغذية المائية وتوسيع إمكاناتها لإطعام العدد المتزايد من السكان في العالم بشكل مستدام. ويوفّر هذا التقرير، الذي تُصدره منظمة الأغذية والزراعة (فاو) كل سنتين، رؤية شاملة وموضوعية وعالمية لمصايد الأسماك الطبيعية وتربية الأحياء المائية، لصانعي السياسات والمجتمع المدني وغيرهم ممن يعتمدون على قطاع صيد الأسماك.
وكانت مبادرة التحوّل الأزرق انبثقت عن إعلان الفاو لعام 2021 بشأن مصايد الأسماك المستدامة، وهي تدعو إلى تكثيف تربية الأحياء المائية على نحو مستدام، وإدارة مصايد الأسماك بشكل فعّال، بالإضافة إلى تطوير سلاسل القيمة الزرقاء التي توفّر مصدراً إضافياً للإمداد، وتكفل الفوائد الاجتماعية والاقتصادية مع ضمان التوزيع العادل والوصول إلى الأغذية المائية.
ويُعتبر التحول الأزرق لأنظمة الأغذية المائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمراً بالغ الأهمية لضمان الأمن الغذائي وسبل عيش المجتمعات. وترى الفاو أن تحقيق ذلك مرهون بجعل استدامة مصايد الأسماك الطبيعية وقطاعات تربية الأحياء المائية أولوية قصوى في جميع أنحاء المنطقة حيث لا تزال استدامة هذه الموارد تعاني من مجموعة من التحديات، بما فيها الصيد غير القانوني وغير المبلّغ عنه وغير المنظّم، وندرة الموارد المائية، فضلاً عن تأثيرات تغيُّر المناخ.
وتعمل الفاو على عدد من البرامج التي تهدف إلى تعزيز وتسهيل التعاون الإقليمي ودعم استدامة تربية الأحياء المائية ومصائد الأسماك وتحسين إدارة الموارد المائية في المنطقة. ففي الإمارات تُعتبر تربية الأسماك مثالاً رائعاً على توظيف الابتكارات بنجاح، حيث تستثمر البلاد، بدعم تقني من الفاو، في الأساليب الحديثة لبناء إنتاج سمكي مستدام ومربح من شأنه الحفاظ على إمدادات الأسماك في البلاد وتحسين أمنها الغذائي. وتشمل الابتكارات أنظمة الاستزراع المائي المتكاملة وأنظمة الاستزراع المائي المعاد تدويرها، التي تسمح بإكثار أنواع كالسلمون والهامور في وسط الصحراء.
وفي الجزائر ومصر وعُمان وبلدان أخرى، حيث تعاني الأراضي الصالحة للزراعة من مشاكل التملُّح والتآكل ونقص المغذيات، تُعتبر الزراعة المائية وتربية الأحياء المتكاملة التي تلحظ الاستفادة من مياه تربية الأسماك في إنتاج الخضار والفواكه والمواد الغذائية الأخرى حلاً لمشكلة الأراضي غير المضيافة أو غير الصالحة للاستخدام.
من وجهة نظر كثيرين، يمكن اعتبار مواطِن المجموعات السمكية غير المستزرعة مشاعاً للجميع، على الرغم من أنها مورد محدود، حيث لا يمتلكها أحد ولا توجد مطالبات بها ذات أساس قانوني. وفعلياً، بمقدور أي شخص أن يصطاد الأسماك من المحيط مما يجعل المجموعات السمكية عرضةً للاستغلال المفرط.
وتُظهِر تجربة منظمة "إن سيزون فيش"، التي تنشط في الهند وتدعم استدامة المصايد السمكية وحماية المحيطات، أن الاستهلاك الأخلاقي للمأكولات البحرية يتعلق أولاً بالمواطنة والعمل الجماعي وبنية المجتمع. ومن أجل ذلك، قامت المنظمة بإنشاء دليل للمأكولات البحرية في الهند بأكملها يقدم توصيات حول أنواع الأسماك التي يُفضّل استهلاكها. ويزيد هذا الدليل من شفافية إمدادات المأكولات البحرية، ويناقش الآراء حول أنواع الأسماك غير المرغوبة في البلاد.
لا يمكن التعويل فقط على تقييد ممارسات الصيد وأخلاقيات الأفراد لتحقيق هدف الصيد المستدام، بل يجب النظر أيضاً إلى سلسلة إمدادات الأسماك، من الصيادين إلى الوسطاء وانتهاءً بالمستهلكين، كسلسلة متكاملة ودراسة كيفية ارتباط حلقاتها بعضها ببعض. وفي الوقت ذاته، يجب تعزيز الإدارة السليمة للمصايد السمكية، ودفع التقدم التقني الذي يدعم الأمن الغذائي ويزيد الإنتاج على نحو مستدام.