جيبوتي احدى أصغر دول افريقيا، اذ لا تتعدى مساحتها 23 ألف كيلومتر مربع، ولا يتجاوز عدد سكانها 500 ألف نسمة. لها واجهة بحرية تمتد 370 كيلومتراً وتطل على البحر الأحمر وخليج عدن، كما ان لها حدوداً مشتركة مع اثيوبيا والصومال. يتحدر سكانها من اثنيتي الصومالي والعفار، ويتكلمون الصومالية والعربية، ولكن تبقى الفرنسية اللغة الاكثر استعمالاً وانتشاراً، اذ بقيت جيبوتي تحت الاستعمار الفرنسي من 1862 حتى 1977 حينما نالت استقلالها.
على رغم مساحتها الصغيرة نسبياً، نجد في جيبوتي تنوعاً بيولوجياً كبيراً. وذلك عائد الى جغرافيتها الفريدة، اذ تقع ضمن منطقة نشاط بركاني مستمر. ويتكهن علماء بأن هذا النشاط البركاني يمهد لنشوء المحيط الأريتري الكبير بعد بضعة ملايين من السنين، نتيجة تباعد الجرف القاري بشكل بطيء. والثروة السمكية أحد أهم موارد البلاد الاقتصادية، لما تحويه مياهها من غنى وتنوع. وتعتبر شواطئ جيبوتي جنة لهواة الغطس، نظراً لوجود الشعاب المرجانية المتعددة الألوان والتي تؤوي أعداداً وأنواعاً كثيرة من الاسماك، وخاصة الكبيرة مثل اللّخ (الشبوط) والشفنين، وبعضها خطر مثل القرش والباراكودا المتواجدين في بعض المواقع. وفي جيبوتي مواقع كثيرة لممارسة هواية الغطس، لا سيما الجزر الصغيرة مثل جزيرة موسى وجزيرة ماسكالي ومجموعة الاخوات السبع، وهي ست جزر صغيرة تحيط بشبه جزيرة رأس سيان وتشكل مجتمعة إحدى "عجائب الدنيا السبع" في نظر هواة الغطس من العالم أجمع. ويشكل وجود منظومة المانغروف على ضفاف هذه الجزر سبباً آخر لتكاثر الحياة البحرية وتنوعها.
ولا يتوقف سحر جيبوتي عند شاطئها، بل يتعداه الى الجزء الداخلي من البلد، حيث غابة داي الفطرية وبحيرتا أبي والعسل. وتشكل غابة داي نموذجاً رائعاً وفريداً لما كانت عليه غابات افريقيا قبل التحولات المناخية الكبرى وبدء النشاط السكاني الكثيف، وتحوي مجموعة كبيرة من الاشجار والنباتات مثل النخيل العملاق والزيتون البري والاكاسيا والعرعر. وتقع بحيرة أبي على الحدود بين جيبوتي واثيوبيا، وتتميز بأرضها التي تخرج منها إبر كلسية ضخمة تصل الى علو 50 متراً. وتنبع من الأرض حولها مياه كبريتية ساخنة. وقد اكتسبت البحيرة شهرتها منذ استعملت موقعاً لتصوير فيلم "كوكب القرود".
أرض الملح
بحيرة العسل، احدى أهم وأجمل معالم جيبوتي الطبيعية، أصبح طعمها هذه الأيام بطعم العلقم، نظراً للتعديات الكبيرة والتشوهات الخطيرة التي لحقت بهذا الموقع الفريد. وهي تعتبر "قعر افريقيا"، اذ تقع على انخفاض 155 متراً تحت سطح البحر، وهي بذلك ثالث أدنى نقطة على سطح الأرض بعد البحر المــيت (-400 متر) وبحيرة طبريا (-280 متراً). وتحفّ بها مجموعة كبيرة من البراكين، أحدثها عهداً بركان اردكوبا الذي ابتدأ نشاطه أخيراً سنة 1978. كما تعتبر بحيرة العسل احدى أكثر النقاط سخونة الكرة الأرضية، اذ تتجاوز الحرارة خلال بعض فترات النهار 55 درجة مئوية. وتبلغ مساحة البحيرة الكلية 52 كيلومتراً مربعاً، ونسبة الملوحة فيها 325 غراماً في الليتر.
وبسبب الحرارة الشديدة، تتبخر المياه بشكل كثيف ولكنها تعود وتتجدد عبر تشققات تحت سطح الأرض تتصل بالبحر. وقد أدت عمليات التبخر هذه عبر العصور الى ترسب طبقة كثيفة من الملح الحجري الناصع البياض على ضفاف البحيرة. وتصل سماكة هذه الترسبات في بعض الأحيان الى 60 متراً.
وارتبط اسم بحيرة العسل تاريخياً بقوافل الجمال التي تحمل الملح الى إثيوبيا والداخل الافريقي المفتقر بمعظمه الى هذه المادة الحيوية، حيث يبادل الملح بسلع غذائية متنوعة. لكن، منذ نشوب المشاكل بين إريتريا وإثيوبيا، ازداد الطلب الاثيوبي على الملح كثيراً، ما حدا ببعض المتنفذين الى اقامة محافر لاستخراجه، تستعمل فيها الجرافات والشاحنات عوضاً عن الطريقة اليدوية التقليدية، ضاربة عرض الحائط بجميع المعايير الجمالية والبيئية ومدمرة تراثاً فريداً أنعم به الله على جيبوتي.
أخبرنا دالله، مساعد وكيل قسم البيئة في وزارة الاسكان والتخطيط والبيئة والتهيئة الترابية،الذي رافق فريق "البيئة والتنمية" في زيارة للبحيرة: "كنا نأتي الى هنا في السنوات الماضية. وكان الملح واضحاً للعيان على أطراف البحيرة. أما الآن، فيبدو وكأن الملح اختفى تماماً عن الضفاف، ما يدفع الشاحنات والجرافات الى التوغل أكثر فأكثر داخل المياه. لقد تشوه المنظر الطبيعي للبحيرة، اذ حل اللون الاسود مكان لون الملح الناصح البياض. انها حقاً لمأساة كبيرة".
طلبنا من السائق أن يتوغل أكثر داخل الموقع. فصادفنا مجموعة من السكان المحليين وهم يجمعون الملح يدوياً. وأخبرنا ديني أنهم كانوا يكتفون بالملح المترسب على ضفاف البحيرة، اما الآن فهم مجبرون على الخوض أبعد الداخل والعمل ضمن ظروف مناخية وطبيعية قاسية جداً. واستخراج الملح يدوياً يتم عادة خلال الليل، اذ ان العمل نهاراً شبه مستحيل، باستثناء الفترة بين تشرين الثاني (نوفمبر) وآذار (مارس).
وسرعان ما صادفنا مجموعة من الجرافات تنهش قعر البحيرة، وشاحنات محملة بالملح تمخر الماء الضحل بعض ما تبقى من هذه الثروة الضائعة. وفي طريق العودة استوقفتنا مجموعة من سكان المنطقة يبيعون قطعاً من الملح الحجري المنحوت بأشكال مختلفة كتذكارات لزيارة البحيرة. قال لنا أحدهم اننا أول مجموعة سياحية تزور المنطقة منذ أكثر من عشرة أيام. فبحيرة العسل لم تعد تجذب السياح، مع انها من أجمل المواقع الطبيعية في جيبوتي.
وأخبرنا مدير قسم البيئة في وزارة الاسكان والتخطيط والبيئة محمد علي مؤمن أن لدى الوزارة مخططاً لنقل مستثمري الملح الى الجهة الخلفية من البحيرة، حيث قشرة الملح أكثر سماكة ويمكنهم اقامة وحدات تجفيف لمياه البحيرة تنتج كميات كبيرة من الملح بسبب الملوحة الشديدة، لكن هذا المخطط لم ينفذ بعد نتيجة عرقلات المتنفذين.
بحيرة العسل ثروة جمالية وطبيعية في مهب الريح. واذا استمرت التعديات عليها، فقد يتغير اسمها قريباً الى "بحيرة العلقم"!