Friday 19 Apr 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
كتاب الطبيعة
 
عندما تعبر اللقالق والصقور  
تموز - آب2011 / عدد 160-161
 

«انظروا إلى حجمهما بالمقارنة مع الصقر الذي يطير الى جانبهما».

كان رفيقي محمّد عيّاد يتكلّم عن زوجين من العقاب الحرّ كانا يحومان في السماء بجلال، باسطين أجنحتهما السوداء التي يبلغ مداها أكثر من مترين. وأضاف بعد اختفاء العقابين فوق السحاب:« الناس تشتاق لرؤية واحد، ونحن تمتعنا برؤية اثنين».

نحن أصدقاء ننتمي إلى جمعية «أحبّاء الطيور»، حملنا الشوق إلى نقطة في جبل الهواريّة في شمال تونس سمّيناها «المرصد»، لنراقب الطيور المقبلة من أفريقيا حيث أمضت شتاءها، عند عبورها آخر نقطة من أرض أفريقيا وهي رأس الرجاء الطيب، في هجرتها السنوية إلى أوروبا قاصدة التزاوج في مناخ ألطف صيفاً.

أمامنا وادي تابودة الخالي من المياه، بنباتاته الأصيلة المميزة للجبل كالكشريد والزيتون البرّي، وعلى الضفة المقابلة جبلا بوكتانة وجابر، ويحيط بنا البحر المتوسط من ثلاث جهات. ولكي نحتمي من رياح «القبلي» الآتية من الجنوب، أو «البحاري» الآتية من الشمال، قمنا بترصيف بعض من حجارة الجبل على شكل سور صغير دائري، وجلسنا وعيوننا متجهة نحو الجنوب ننتظر.

كنّا في النصف الثاني من شهر نيسان (أبريل) 2011، فهذه الفترة تكون عادة ذروة وصول الجوارح، خصوصاً أسراب حوّام النحل أو ما يسمّيه الأهالي «بغل السمان»، وأسراب عقاب التحيميم الأحمر القدمين الذي يدعى «اللزيق» في بعض البلدان. لكن وصول الطيور يبدأ قبل هذا الموعد. فإذا صعدت إلى الجبل آخر شهر شباط (فبراير) أو في شهر آذار (مارس) وسمعت «كرو كرو» من بعيد، انتظر قليلاً فستفاجأ بقدوم سرب من طيور الغرنوق أو الكركي الرمادي، محركة أجنحتها التي يتجاوز مداها المترين، راسمة بأجسامها في السماء شكل الحرف اللاتيني V. وإذا حالفك الحظ ومرّت فوقك فستسمع حفيف أجنحتها ممزقاً صمت الجبل المهيب.

لقد عشت هذه التجربة الجميلة، إذ مرّت فوقي مجموعات من 20 إلى 30 طائراً. وقد اهتممت بداعي اتخاذها ذلك الشكل الجماعي عند هجرتها، وعلمت أنه حيلة منها للتخفيف من قوّة احتكاكها بالهواء المقابل.

 

صيحة فرح

طيور الغرنوق التي تفتتح موسم الهجرة كل سنة ليست الوحيدة التي تتخذ عند هجرتها شكلاً جماعيًّا خلاّباً. فطيور اللقلق الأبيض أو «البلاّرج» تقوم من حين الى آخر بالدوران في مكانها باسطة أجنحتها في حركات جماعية متداخلة. لقد مرّت أمامنا في اليوم الثاني مجموعة من قرابة مئتي لقلق أبيض، مضفية بحركاتها الجماعية بهاء لا يمكن وصفه.

تساءلت ما الهدف من هذه الحركات الدائرية المتداخلة. فأجابني صديقنا هشام الزفزاف أن الطيور تقوم بالبحث عن التيارات الهوائية الساخنة المنبعثة من الأرض، التي تساعدها على التحليق عالياً ممّا يمكنها من قطع مسافات كبيرة من دون تحريك أجنحتها. فهذه الطيور ستقطع البحر مسافة 146 كيلومتراً بين الهواريّة وسواحل صقلية الإيطالية، وربما لن تجد اليابسة التي تستطيع الاستراحة عليها. وقد قرأت أخيراً دراسة علميّة تقول إنه في الظروف المناخية الجيّدة يمكن للطائر أن يقطع مسافة تصل إلى 200 كيلومتر من دون تحريك جناحيه، معتمداً على التيارات الساخنة فقط.

تبدأ لعبة التناقض و«السحر» عند ظهور اللقلق الأسود. فهذا الطائر لا يناقض اللقلق الأبيض في ألوانه فقط، وإنما في ندرته أيضاً. فالمجموعات القليلة التي شاهدناها لم تتجاوز أعداد الواحدة منها الأربعة أنفار. وتأخذك نشوة بالغة عند رؤية بياض صدر هذا اللقلق ومنقاره الأحمر الكبير وسط لونه الأسود الغالب.

كانت مهمّتنا تتمثّل في تدوين أسماء الطيور وأعدادها واتّجاه طيرانها وتوقيت مرورها. وإن لم تتوافر المعلومات الدقيقة حول أعداد كلّ نوع من الطيور المشاهدة كلّ سنة، فإن الملاحظ البسيط يدرك بعد أيام قليلة الفرق مثلاً بين أعداد نوعين من الجوارح ينتميان إلى عائلة الحدأة. فإذا كانت أسراب الحدأة السوداء، التي نعرفها بلونها الداكن وشكل ذيلها المميز نصف الدائري، توحي بأعدادها الكبيرة، فإن رؤية طائر أو طائرين من طيور الحدأة الذهبية يعتبر مفاجأة سعيدة. وأتذكر صيحة الفرح التي أطلقتها هذه السنة عندما رأيت لأول مرة في حياتي، وبلا منظار، حدأة ذهبية وسط سرب من طيور الحدأة السوداء. وقد تعرفت إليها بالعين المجرّدة لشكل ذيلها المميّز بالحرف V البارز، وكبر حجمها، واختلاف شكل جناحيها ولونها بالمقارنة مع الحدأة السوداء.

قال محمّد علي، ابن الهواريّة، بنبرة فيها كثير من الاعتزاز: «قبل عشر سنين أمضيت شهرين كاملين في مراقبتها لوحدي. كنت أتجشم عناء الصعود من البلدة إلى هذا المكان لأمضي كامل اليوم في تدوين أنواعها وأعدادها». وهو كتب تقريراً إلى وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي دوّن فيه مشاهداته وملاحظاته، ومنها أنه شاهد سبعة أنواع من النسور.

 

البيازرة والطيور المهاجرة

تحدّثت مع أصدقائي عن رؤيتي لطائر صغير مهاجر هو الأبلق الأشهب بالقرب من المرصد، الأمر الذي أثار استغرابهم، فهذا الطائر لم يشاهد من قبل في الهواريّة. وكنت متمسّكاً برأيي أنّ مسالك الهجرة ليست ثابتة وأن المفاجآت السعيدة ممكنة. في تلك الأثناء تقدّم نحونا من «المنصب» القريب رجل حاملاً شبكته، فقال:«كان كلّ شيء على ما يرام عندما رأيت سافاً يقترب، ولكنّ الزرّيس صمت على غير عادته».

قال الصياد ذلك بنبرة فيها شيء من الحسرة وكثير من الأمل في الغد. ففي الهواريّة عادة متوارثة منذ قرون هي صيد جارح صغير اسمه السّاف بواسطة شباك متنقّلة. فالصياد يختبئ وراء حجارة مرصّفة تسمى «المنصب»، بعد أن ينشر شبكته واضعاً طائراً صغيراً اسمه الزريس كطعم يتميّز عن بقية الطيور الصغيرة بأنه لا يصمت عند رؤية السّاف. ولكن زريس صديقنا صمت هذه المرّة فضاع السّاف!

إذا قدمت إلى الهواريّة أواخر شهر نيسان (أبريل) وفي شهر أيار (مايو) ورأيت رجلاً يحمل جارحاً ويجوب حقلاً للحبوب، فأعلم انه «البيّاز» يدرّب سافه على صيد طائر مهاجر آخر هو السمّان. وتنتهي العِشرة بين الرفيقين إثر فعاليات مهرجان السّاف السنوي، حيث يطلق الصيّاد سافه في أواخر شهر أيار (مايو) ليواصل هجرته.

والبيازرة ليسوا مجرّد صيادين كما يتصوّر البعض، بل هم علماء طيور بالفطرة، يعرفون كلّ الطيور المهاجرة ومواعيد قدومها وعاداتها، ويطلقون عليها أسماء محليّة أصبحتُ من المولعين بجمعها والبحث عن سبب تسميتها. فالصّرارة مثلاً جارح كبير نعرفه عندما نرى جناحيه الأبيضين العريضين، سمّي «بولحناش» لأنه صائد ماهر للحيات، فالحنش هو الحيّة باللهجة المحليّة. وقد قرأت أخيراً في مجلّة فرنسيّة أنّه يجازف عندما يقدم على صيد أفعى سامة، لأن لا شيء في جسمه يقيه من سمّها. أما الصقر الحرّ، وهو مقيم في الهوارية، فسمّي «برني بحري» لأنه يتخذ عشّه في الحواف الصخرية المطلّة على البحـر. أمّا صقر عاسوق فسمـوه «بوجرادة» لأنه يقتات على الجراد.

وتظهر جليّة عراقة علاقة الأهالي بالطيور المهاجرة في التسمية القديمة للهواريّةAquilaria  المشتقة من Aquila  أي النسر باللغة اللاتينية. وما زلت أبحث عن سرّ تسمية حوّام النحل «بغل السمان»، أو تسمية صقر هوبيغو «جدانق»، أو تسمية «السقاوة المتغيرة» أو "السقاوة الجرّاحة" وهما جارحان مهاجران نعرفهما من أجنحتهما العريضة القصيرة.

في أيامنا الأخيرة كانت أسراب حوّام النحل تملأ جوّ الجبل، وشاهدنا في يوم واحد قرابة 4000 طائر منها بذيولها الطويلة وأجنحتها المخطّطة العريضة.

عند نهاية مغامرتنا كانت تخامرني أحلام بأن جبل الهواريّة لم يبح لي بعد بكامل أسراره. فما زلت أطمح الى متابعة الطيور التي تهاجر ليلاً، مثل «غراب الليل» الذي صادفناه عند عودتنا في إحدى الأمسيات بجانب المنطقة الرطبة في سيدي عامر. هناك رأينا نحو ثلاثين غراباً تأخذ نصيباً من الراحة قبل مواصلة هجرتها عندما يحلّ الظلام.

السقاوة المتغيرة (الى اليمين) والسقاوة الجراحة (الى اليسار)  الصقور
سرب مهاجر من طوير اللقلق الأبيض
يلتقي أحباء الطيور، كل سنة في المرصد لمراقبة الجوارح الآتية من أفريقيا
طائر الساف الذي يعشقه أهالي الهوارية
تأتي كل سنة أعداد قليلة من صقر الرني الى الهوارية مهاجرة من أوروبا
جقران المستنقعات مستريحاً على جذع شجرة قبل مواصلة رحلة هجرته المضنية
هذا المكان المطل على الحواف الصخرية المسننة للسواحل الهوارية وتظهر محطة طاقة الرياح في سيدي داود التابعة للهوارية
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.